البابا فرنسيس: التأمل هو نظرة إيمان مُحدِّقة إلى يسوع
“إن ما يولد من الصلاة لا من غرور الأنا، وما تتمُّ تنقيته بالتواضع، حتى لو كان فعل حب منعزل وصامت، هو أعظم معجزة يمكن للمسيحي أن يحققها” هذا ما قاله قداسة البابا فرنسيس في مقابلته العامة مع المؤمنين.
أجرى قداسة البابا فرنسيس صباح اليوم الأربعاء مقابلته العامة مع المؤمنين في مكتبة القصر الرسولي بالفاتيكان واستهلَّ تعليمه الأسبوعي بالقول في هذا التعليم أرغب في أن أتوقّف عند صلاة التأمّل. إن البعد التأملي للإنسان – الذي لم يُصبح بعد صلاة تأمل – يشبه إلى حد ما “ملح” الحياة: فهو يضفي نكهة ويمنح طعمًا لأيامنا. يمكنك التأمُّل بالنظر إلى الشمس التي تشرق في الصباح، أو الأشجار التي تصبح خضراء في الربيع؛ يمكنك التأمُّل بالاستماع إلى الموسيقى أو إلى زقزقة العصافير، أو قراءة كتاب، أمام عمل فني أو تلك التحفة التي تمثل الوجه البشري … إنَّ كارلو ماريا مارتيني، الذي أُرسل أسقفًا إلى ميلانو، وجّه رسالته الرعوية الأولى بعنوان “البعد التأملي للحياة”: في الواقع، إنَّ الذين يعيشون في مدينة كبيرة، حيث كل شيء اصطناعي وعملي، يخاطرون بفقدان القدرة على التأمُّل. إنَّ التأمل في المقام الأول ليس أسلوب عمل، وإنما أسلوب حياة.
تابع البابا فرنسيس يقول إنَّ التأمل لا يعتمد على العيون، وإنما على القلب. وهنا يأتي دور الصلاة، كفعل إيمان ومحبة، و”نَفَسٍ” لعلاقتنا مع الله. إنَّ الصلاة تُنقَّي القلب، وبذلك تنير النظر أيضًا، وتسمح لنا بفهم الواقع من وجهة أخرى. يصف التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية تحول القلب هذا من خلال الصلاة مستشهداً بشهادة معروفة لكاهن آرس القديس: “التأمل هو نظرة إيمان مُحدِّقة إلى يسوع. أنا أنظر إليه وهو ينظر إلي!”، هذا ما كان يقوله كاهن آرس الفلاح القديس في الصلاة أمام بيت القربان. […] إنَّ نور نظر يسوع ينير عيون قلوبنا؛ ويعلمنا أن نرى كل شيء في نور حقيقته وشفقته تجاه جميع البشر” (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية عدد ٢٧١٥). كل شيء يولد من هناك: من قلب يشعر بالحب. وعندها يتمُّ التأمُّل في الواقع بعيون مختلفة.
أضاف الحبر الأعظم يقول “أنا أنظر إليه وهو ينظر إلي!”. هكذا هو الأمر في التأمُّل المُحبّ الذي يميز الصلاة الحميمة، لا نحتاج إلى كلمات كثيرة: تكفينا نظرة، ويكفي أن نكون مقتنعين بأن حياتنا محاطة بحب كبير وأمين لا يمكن لأي شيء أن يفصلنا عنه أبدًا. لقد كان يسوع مُعلِّم هذه النظرة. ولم تَغِب أبدًا في حياته، الأزمنة، والفسحات، ولحظات الصمت، والشركة المُحبَّة التي تمنع التجارب الحتمية من أن تُدمِّر الحياة وتحافظ على جمالها سليمًا؛ وكان سرُّه في العلاقة مع الآب السماوي.
تابع البابا فرنسيس يقول لنفكر في حدث التجلي. تضع الأناجيل هذا الحدث في اللحظة الحاسمة لرسالة يسوع، عندما نمى من حوله النزاع والرفض. حتى بين تلاميذه كثيرون لم يفهموه وتركوه، وأحد الاثني بدأ يُضمر له الخيانة. بدأ يسوع يتحدث بصراحة عن الآلام والموت الذي ينتظره في أورشليم. وفي هذا السياق، صعد يسوع جبلاً عاليًا مع بطرس ويعقوب ويوحنا. ويقول إنجيل مرقس: “تَجَلَّى بِمَرأَى منهم. فَتَلألأَت ثِيابُه ناصِعَةَ البَياض، حتَّى لَيَعجِزُ أَيُّ قَصَّارٍ في الأَرضِ أَن يأَتِيَ بمِثلِ بَياضِها”. في اللحظة التي أُسيء فيها فهم يسوع، وعندما بدا أن كل شيء يتبدّد في زوبعة من سوء الفهم، هناك أشعَّ النور الإلهي. إنه نور محبة الآب الذي ملأ قلب الابن وغيَّر شخصه كلَّه.
أضاف الأب الأقدس يقول لقد فهم بعض مُعلِّمي الحياة الروحيّة في الماضي التأمل على أنه نقيض للعمل، وقد عظَّموا تلك الدعوات التي تهرب من العالم ومشاكله لتكرِّس نفسها بالكامل للصلاة. في الواقع، لا يوجد تعارض في يسوع المسيح وفي الإنجيل بين التأمل والعمل. ربما قد جاء ذلك من تأثير بعض فلاسفة الأفلاطونية الجديدة، لكنه يتعلّق بالتأكيد بازدواجية لا تنتمي إلى الرسالة المسيحية.
وختم البابا فرنسيس تعليمه الأسبوعي بالقول هناك دعوة واحدة عظيمة في الإنجيل، وهي أن نتبع يسوع على درب المحبة. هذه هي قمة ومحور كل شيء. بهذا المعنى، تصبح المحبّة والتأمل مترادفان، ويقولان الشيء عينه. لقد كان القديس يوحنا الصليب يؤكِّد بأنَّ عملاً صغيرًا من أعمال المحبة النقية هو أكثر فائدة للكنيسة من جميع الأعمال الأخرى مجتمعة. إن ما يولد من الصلاة لا من غرور الأنا، وما تتمُّ تنقيته بالتواضع، حتى لو كان فعل حب منعزل وصامت، هو أعظم معجزة يمكن للمسيحي أن يحققها.