حكاية من زمن الوباء بقلم المونسنيور د. بيوس قاشا

​ما هذا الزمن القاسي، زمن الوباء والعَداء، زمن الأنانية والكبرياء، زمن المصالح والكراهية والأكاذيب البيضاء، زمن الضياع ونكران حقيقة السماء، زمن الحزن والخوف والبكاء، زمن فقدان الأحبة بسبب الوباء “كورونا”… نعم، إنه زمن الوباء وفيه كانت أعداد الذين انتقلوا إلى الديار الخالدة في مدينة الأحياء، كضحايا أبرياء، مخيفة جداً.


ولكن إيماني برسالتي الكهنوتية المقدسة _ وكما أُدركها أنا بأن الكاهن هو موزع النِعَم من خلال توزيعه الأسرار المقدسة حيث يعيد النعمة إلى مَن فقدها أو يزيدها في نفوسه _ وفي ظل الأزمة الصحية الناتجة من تفشي “فيروس كورونا”، ورغم الحظر الشامل المفروض خلال تلك الأيام، وكما هي عادتي كل شهر، حملتُ القربان المقدس بكل شجاعة وإيمان، وانطلقتُ إلى مرضى ومسنّي رعيتي لأخفّف من آلامهم وعذاباتهم، وأشجعهم على تحمّل آلامهم بكل هدوء وسكينة.
أتذكر جيداً كان ذلك النهار يقول “أنا الاثنين” الحادي والعشرين من شهر كانون الأول من العام الماضي (2020)، قرب حلول عيد الميلاد المجيد، وكان لي في هذا اليوم موعدٌ لزيارتها، إنها تلك السيدة المؤمنة التي يتجاوز عمرها الخامسة والسبعين وتعاني من مرض عضال ألزمها الفراش، وكان برفقتي يسوع المسيح “القربان المقدس” وكأني به يقول “كنتُ مريضاً فزرتموني” (متى 36:25). وإذ مددتُ يدي لأقرع جرس الباب سمعتُ صراخاً يدوّي من داخل البيت فظننتُ أن تلك السيدة قد فارقت الحياة وانتقلت إلى مدينة الأحياء. فُتح لي الباب ودخلتُ فرأيتُها رافعة يديها إلى السماء منتحبةً وطالبةً من ربها وخالق الأكوان أن ينقذها من الألم الذي يعتريها وأن يأخذ أمانته من هذه الحياة، كما شاهدتُ إبنها واقفاً أمامها بوجهٍ مكفهر ومملوء غضباً وحقداً وكراهيةً لحياته، مع إني أعلم أنه كان قد حصل على منصب رفيع في حياة الدنيا مما جعله لا ينحني لحقيقة الأيام.


كان الصمت يراودني أمام ما أرى، والسؤال يراود ذهني مستفهماً عن حقيقة الأمر، لماذا تطلب هذه السيدة من الرب أن ينقذها من هذه الحياة وابنها واقف أمامها لا يبالي بدموعها، فمنصبه الجديد جعله ينسى حقيقة الخيمة التي احتضنتْه وما كانت له ومن أجله كي يكون منذ صغره وإلى هذا اليوم، ومع ذلك إعتذر مني لعدم الاهتمام باستقبالي ناسباً ذلك إلى صراخ وصياح والدته وصوت بكائها. وما هي إلا لحظات حتى صرخ بوجه والدته قائلاً:”كفي صراخاً، ماذا تريدين مني؟ لِمَ هذا البكاء والعويل؟ إذهبي إلى جهنم وبئس المصير. واعلمي جيداً أن زمانكِ قد ولّى وانتهت أيامكِ وأصبحتِ من سيدات الماضي ولم يبقَ لي معكِ أية مصلحة”، وفي الحال دخل بكل عصبية إلى غرفة مجاورة لغرفة والدته ليخرج بعد لحظات منها وبيده ورقة كان قد أعدّها مسبقاً وقال لها:”اسمعي أيتها السيدة، سأقرأ عليكِ ما كتبتُ، وأبونا شاهدٌ على ذلك. أتعابكِ مقبولة وأجوركِ لا تساوي أكثر من (300) ألف دينار بالتمام والكمال وهذا ما تمنحه وزارة الشؤون الاجتماعية لأمثالكِ من المرضى والمسنّين والأرامل وعتيقي الأيام”، ثم طوى الورقة ووضعها في جيبه. نظرتْ إليه والدته، وقالت له وبكل حنان:

  • يا ابني، أرجو أن تسمع ما أقول: توجد آية في الكتاب المقدس تقول “اسمع لأبيكَ الذي ولدكَ ولا تستهن بأمّكَ إذا شاخت” (أمثال 22:23) و”لا يحقّ لأحد أن يتسلّط على أحد… ولا الأبناء بأهلهم” وهذا ما قاله اليوم أبونا بيوس صباحاً بالفيديو (تقصد حقيقة الحياة لهذا اليوم).
    وفي هذه الأثناء إلتفت إليّ إبنها بنظراتٍ غربية قائلاً لي:
  • اعذرني أبونا على هذا الموقف!… ثم التفت إلى والدته قائلاً لها: أكملي كلامكِ أيتها السيدة.
  • فأجابته: صحيح أنا سيدة ولكن اسمع يا ابني الحبيب هذه الحقيقة: ابتسم جيداً ولا تكن كارهاً لحالتي، فالحياة مسيرة ألم وفرح وهي دوّارة وأيامكَ ستنتهي يوماً وسترى بأَمّ عينكَ ما سيحصده الوباء من ضحايا أبرياء، فاسمعني جيداً واصغِ إلى كلامي: فقد حملتُكَ في أحشائي تسعة أشهر بالتمام والكمال ولم أبالي بأتعابي وآلامي وفي كل ذلك لم أطلب منكَ أي شيء مقابل ذلك!. أرضعتُكَ في صغركَ حليباً صافياً، طاهراً، كامل الدسم بالحب ومملوءاً حنيناً وفيتامينات لتقوية مناعتكَ من أجل هكذا زمان، زمن الوباء، واستمريتُ بإطعامك أشهى المأكولات ولم أطلب منكَ ثمناً!. اشتريتُ لكَ _ ومذ كنتُ حاملة بكَ _ ملابس جميلة راقية وطوال فترة طفولتكَ وشبابكَ لتكون أنيقاً وجميلاً كي لا تخجل أمام أحبائكَ وأصدقائكَ وبلا مقابل!. عملتُ على الاهتمام بنظافتكَ ونظافة ملابسكَ ولم أطلب منكَ أجرة على ذلك!. سهرتُ الليالي بجانبكَ في فترة المرض وغيره، في برد الشتاء وحرارة الصيف ولهيبه وانقطاع التيار الكهربائي المتواصل، في زمن الحروب والتقشف والحصار لأحميكَ من القصف والخطف والمرض خوفاً عليكَ وعلى صحتكَ من الآتي ولم أطلب منكَ فلساً واحداً!.
  • كنتُ أعمل جاهدة ومضحية من أجل تطبيبكَ وسكبتُ الدموع من أجل مستقبلكَ، وناجيتُ إلهي في السماء كي لا تحيد عينه عنكَ من أجل نجاحكَ وتقدمكَ في هذه الحياة ولا زلتُ إلى اليوم وكل هذا بدون مقابل!… نعم، كل ذلك بلا مقابل، وأعلم أنكَ إنْ فكرتَ جيداً ستراني وأنا في عمري هذا متفانية لأجلكَ وحبي لكَ أكبر من احترامكَ لي، ولهذا أنا أذرف دموعي على ما يحصل معي اليوم وما حصل لي معكَ.
    واغرورقت عيناها بالدموع وانهمرتْ بالبكاء وساد صمتٌ عميق لهذا الواقع الأليم وأنا جالسٌ أستمع لذلك الحوار بين أمّ ضحّت بالغالي والنفيس من حياتها في سبيل ولدها وبين هذا الولد المتعجرف والناكر للجميل.
    وإذ هممتُ بإكمال واجبي وإعطائها القربان قبل مغادرة المنزل وإذ بي أتفاجأ بابنها وهو يرتمي في حضن أمّه وعيناه تذرف دموعاً حزينة مليئة بقطرات التوبة وقال لها بلهجة تنتابها الزفرات:
  • سامحيني يا أمّي الحنونة فأنا أحبكِ كما تحبيني ولا أستطيع أن أعوّضكِ عن كل ما فعلتِهِ معي، فأنتِ خيمة لوجودي وحقيقة لعطائكِ من أجلي وحبكِ لي، ولا يمكن أنْ أردّ لكِ ولو جزءاً قليلاً من الدَيْن الكبير الذي في رقبتي، فأرجو منكَ أن تسامحيني. أنا تائب إلى رب السماء وإليكِ وأعتذر منكِ ومن أبونا بيوس.
    وقبّل رأس والدته وهو يبكي وينتحب، وبكيتُ معه بسبب مشاعري الإنسانية لِمَا رأيتُه من مشهد مؤلم ومفرح في الآن ذاته… إنه مشهد الحقيقة. عندها نهضتُ من مكاني وتقدمتُ من الوالدة الأمّ فباركتُها وباركتُ إبنها على هذه المبادرة المسيحية الحقيقية وعلى وجودي بينهم في ذلك اليوم إذ أدركتُ عمل المسيح في ذلك الوقت، فناولتُها وإبنها القربان المقدس، يسوع المسيح الذي كان برفقتي ينتظر لحظة مصالحتهما بعد أن نثر نعمته في قلب ذلك الابن المتعجرف. وبعد تلاوة صلاة قصيرة، قلتُ لهما قبل مغادرتي المنزل:
  • هذه هي حقيقة الحياة أن نكون أمناء لحب السماء فنتوب من أجل الحقيقة وخاصة في هذا زمن الوباء، فما أكثر البشر وكبار الدنيا والزمن والمسلَّطين الذين يعاملون عتيقي الأيام بهذه الصورة وبهذا الكلام.

  • ختاماً، أقول لقارئي حكايتي هذه: إن زمن الوباء ما هو إلا زمن الشهادة للحق وليس الشهادة المزيفة من أجل المصالح، زمن إصلاح الأخطاء وليس لزيادة الحقد والكراهية، زمن الرحمة والحنان وليس العنجهية والكبرياء، زمن التوبة والمغفرة من ربّ السماء وليس زمن التزمّت والتعصّب وحب الذات. زمن الكهنة الشجعان والغيارى لا زمن الذين نسوا وينسون المسيح المحبوس في بيت القربان المقدس ينتظرهم بسبب غلق الكنائس. لنكن رحماء بكل ما للكلمة من معنى لا أن نُظهر أنفسنا أمام الآخرين بأننا أقوياء وأقرباء السماء ونحن بعيدون عن أبناء البسيطة من المظلومين الأبرياء وضحايا الغش والنفاق والتزوير. فلنترك المصالح الأنانية جانباً ونفتش عن مصلحة السماء وحقيقة الحياة، فهي بين أيدينا… ليس إلا!.
    بعدها غادرتُ دار السيدة الفاضلة وقلبي مملوءٌ فرحاً واغتباطاً وابتهاجاً، فالمسيح _ ينبوع النِعَم _ الذي حملتُهُ في قلبي وبين يديّ متّكلاً عليه لتجاوز الصِعاب والمِحَن التي قد تواجهني خلال زياراتي للمرضى، كان معي. فلا شدّة ولا ضيق ولا خطر ولا حظر شامل ولا سيطرات أو نقاط تفتيش استطاعت أن تفصلني عن محبة المسيح… إنها رسالة المسيح إلى أبناء هذا الزمن…
  • إنها رسالة السماء…
  • وشكراً.
Leave A Reply