مقابلة صحيفة ‘أوسرفاتوري رومانو‘ مع غبطة البطريرك ثيوفيلوس الثالث بخصوص النور المقدس .

أوسرفاتوري رومانو هي الصحيفة اليومية الصادرة عن الفاتيكان، والتي تقدم تقارير عن أنشطة الكرسي الرسولي والأحداث التي تجري في الكنيسة والعالم. 

أجرى هذه المقابلة الصَّحفي: دي روبرتو سيتيرا. 

وتُرجمت للعربية على يد الصَّحفية: هبه هريمات. 

النُّور الذي يُنير النَّاس 

في كل عام، يجلب النور المقدس العديد من المؤمنين الشغوفين إلى القدس. كيف تفسر غبطتك حقيقة استمرار ونمو هذا الانتساب العالي عبر هذه القرون كلها؟ 

  تعود أصول احتفال النور المقدس إلى الأعوام الأولى من عمر الكنيسة عندما أخذت الممارسات الليتورجيا الكنسية بالتطور، وهي واحدة من أقدم الممارسات في تقاليدنا في كنيسة القدس. والأدلة على ذلك موجودة في توثيقات الحجاج الأوائل، مثل الحاجة إجيريا. عامًا بعد عام، يجتمع المسيحيون المحليون والحجاج في هذه اللحظة عندما يكون قد تَكَوَنَ لدينا نكهة مسبقة عن القيامة، والتي نسميها في تقاليدنا “القيامة الأولى”؛ هذا يتمثل في الضوء الذي شعَّ من القبر والتجربة التي عاشتها النساء حاملات الطيب؛ كما نقرأ في إنجيل القديس متى: 

“وَبَعْدَ السَّبْتِ، عِنْدَ فَجْرِ أَوَّلِ الأُسْبُوعِ، جَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ الأُخْرَى لِتَنْظُرَا الْقَبْرَ. وَإِذَا زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ حَدَثَتْ، لأَنَّ مَلاَكَ الرَّبِّ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَجَاءَ وَدَحْرَجَ الْحَجَرَ عَنِ الْبَابِ، وَجَلَسَ عَلَيْهِ. وَكَانَ مَنْظَرُهُ كَالْبَرْقِ، وَلِبَاسُهُ أَبْيَضَ كَالثَّلْجِ” (إنجيل متى 28: 1-3). 

هذه تجربة للنورِ غير المخلوق الذي يضيء من القبر المقدس والذي ترمز له الشموع المضاءة التي تنقل الضوء ليس فقط لجميع أنحاء الكنيسة، ولكن لجميع أنحاء العالم. في كل كنيسة أرثوذكسية، يتقدم الناس في بداية ليتورجيا عيد الفصح لأخذ الضوء من الشمعة التي يحملها الكاهن، وهذه العادة أتت إليهم من القدس. حتى في أوقات الاضطهاد والصعوبات التي تعرضت لها كنيسة القدس على مر العصور، شهادة النور المقدس لم تتوقف أبداً. 

هناك عدة أسباب تفسر المكانة المهمة التي تحتلها مراسم فيض النور المقدس في قلوب الكثيرين. 

أولاً، إنَّ النور المقدس هو العلامة الراسخة لاستمرار إيمان الكنيسة بقيامة ربنا يسوع المسيح من بين الأموات. فمن نفس المكان الذي يخرج منه النور المقدس في كل عام قد خرج ربنا نفسه بعد دفنه لثلاثة أيام، ليعلن أن الموت قد دُمر إلى الأبد وأن الحياة الجديدة للقيامة مفتوحة للجميع. اللهيب الحي هو شاهد للرب الحي “أبَّ الأنوار” (يعقوب 1:17)، حيث قال المسيح نفسه “أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ”(إنجيل يوحنا 8:12). 

ثم يجب أن نتذكر أن النور المقدس يُذكرنا بسر حياة الرّبْ الإلهية ووجودنا البشري وهدفنا الذي خلقنا الله لأجله “لِكَيْ تَصِيرُوا بِهَا شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلهِيَّةِ” (بطرس الثانية 1: 4). 

الحياة بحد ذاتها سرٌّ عظيم ومقدس، وقد وُهبت هذه الحياة للعائلة البشرية عند الخليقة. 

نحن منجذبون لِسِّر الحياة الإلهية في هذه الحياة المبكرة عبر مجموعة من السبل منها الأسرار المقدسة؛ وخاصة الإفخارستيا الإلهية. يتأثر قلب الإنسان بعمق بمبادرة الله الإلهية. وتجد هذه المبادرة تركيزها الأعظم في اللقاء الإلهي البشري هنا في الأراضي المقدسة، حيث نمثل نحن الشهود الأحياء لتاريخنا المقدس. لذا، حين نرى الرموز والأدلة على سر اللقاء الإلهي البشري هذا، كما يحصل في احتفال النور المقدس في نفس المكان الذي حدثت فيه معجزة القيامة، يُضطر الناس بطبيعة الحال للتحرك قُدماً في حياتهم الروحية ويرغبون في أن يكونوا قريبين من الحدث وشاهدين له. 

ولكن هناك ما هو أكثر من هذا كله. إن احتفال النور المقدس هو حدث مسكوني حقًا، ونعني بذلك أنها لحظة لا توحد المسيحيين فحسب، بل توحد جميع الأشخاص ذوي النوايا الحسنة من مجتمعاتنا المحلية ومن جميع أنحاء العالم، دون تمييز. هذه لحظة للمسيحيين الأرثوذكس بالطبع، ولكن أيضًا للمسيحيين الآخرين المشاركين، من الأرمن والأقباط والسريان، وكذلك للكاثوليك والأنجليكان واللوثريين وأشخاص من ديانات أخرى نعرف أنهم موجودون في كل عام في الكنيسة لمشاهدة هذا الحدث. يعطي النور المقدس نوره بسخاء للجميع، حتى يعرف كل من يرغب في الحصول عليها الاستنارة التي يجلبها النور غير المخلوق لقلوبنا وعقولنا. إن النور المقدس بحد ذاته هو انعكاس للنار التي تشتعل في قلب كل إنسان يبحث عن الله، ولذا فلا عجب أن تستمر في جذب وإلهام الآلاف من الناس. 

  

كيف يتم تفسير احتفال النور المقدس ضمن التقليد اللاهوتي الأرثوذكسي؟ ما هو المعنى الخارق للطبيعة لهذا الحدث؟ 

كما هو حاصل في يوم السبت المقدس، اليوم السابق لعيد الفصح، في اللاهوت الأرثوذكسي النور المقدس هو في الأساس إشعار للقيامة. في كلٍ من التقاليد الشرقية والغربية، يلعب نور عيد الفصح دورًا بارزاً باعتباره رمزاً الحياة الجديدة للقيامة كما هو الحال في هذا الاحتفال. فكما تندفع النار من القبر المقدس، هكذا هبَّ ربنا يسوع المسيح من القبر في الصّباح الأول لعيد الفصح. في أوقات كثيرة، يتم إرجاع الفوانيس التي تضاء من النور المقدس إلى بلدان أخرى لتصل في الوقت المناسب لقداس الفصح الذي يجرى في وقت لاحق من نفس الليلة، بحيث تشترك الشموع التي تضاء في الكنائس البعيدة بشكل مباشر وحميم مع تلك التي تضاء في القدس أثناء الاحتفال الفصحي. 

المعنى الخارق للطبيعة هو نفسه. يجذبنا النور المقدس عن كثب لسِّر القيامة، وبالتالي تتعمق رغبة ارتداد الروح. إنها تجعل القيامة أكثر واقعية وفورية لنا، وتحدثنا أيضًا عن مصداقية محبة الله لنا، وتشجعنا على التزامنا في الحياة الروحية. كما يؤكد لنا الكتاب المقدس، فإن الله لن يتركنا أبدًا أو يتخلى عنا (“تَشَدَّدُوا وَتَشَجَّعُوا. لاَ تَخَافُوا وَلاَ تَرْهَبُوا وُجُوهَهُمْ، لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَكَ سَائِرٌ مَعَكَ. لاَ يُهْمِلُكَ وَلاَ يَتْرُكُكَ” تث 31: 6 وعبر 13: 5)، وحقيقة أن هذا التأكيد يحدث في كل من الأسفار العبرية وكذلك في الكتاب المقدس هو شهادة قوية على حقيقتها العالمية. 

إن مشاركتنا في احتفال النار المقدسة هي تجربة لقاء إلهي بشري، وبالتالي فهي مشابهة لمشاركتنا في الإفخارستيا المقدسة، والتي هي أيضًا لقاء إلهي بشري كما نتشارك في جسد المسيح ودمه. 

ما هو رأيُ غبطتكم في البعد المسكوني لطقس النور المقدس؟ 

 كما ذكرنا سابقًا، فإن النور المقدس هو حدث مسكوني بامتياز بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، ومن المهم أن نتذكر ثلاثة أشياء. 

 النور المقدس هو علامة على وحدة الأرثوذكس، ليس فقط للكنائس الشقيقة، ولكن أيضًا للأمم الأرثوذكسية التي توحد ثقافيًا بتقاليد دينية مشتركة. في أيامنا هذه نحن نشعر باستعداد جميع الدول المسيحية الأرثوذكسية للمشاركة فيه، وهم يرسلون وفودًا لاستقبال النور المقدس. 

 كذلك النار هي رمز ديني عالمي. النار ضرورية للحياة البشرية، الجسدية والروحية. بالمصطلحات المسيحية، عند تقاسم النار المقدسة مع الشموع والمصابيح، فإنه يذكرنا بأن حياة الله ومحبته مشتركان؛ لكن لا يتضاءلان أبدًا، تمامًا كما يستمر النور المقدس في الاشتعال حتى بعد احتراق العديد من الشعلات الفردية منه. نحن نسمي هذا “النور الساكن“، الذي لهيبه يندفع باستمرار دون انقطاع في كنيسة القيامة، حتى في عزّ أزمات الحرب والاضطرابات. لذا النور المقدس، بحد ذاته وبمعناه الكامل، يوحد كل من يتعامل معه. 

 يجب علينا أيضًا أن نتذكر الدعوة المسكونية الفريدة لكنيسة القيامة التي يتم فيها هذا الاحتفال. لكنيسة القيامة رسالة، ورسالة مسكونية خاصة، ليس فقط بين المسيحيين من مختلف الكنائس والمذاهب، ولكن بين جميع شعوب الجنس البشري، بغض النظر عن عقيدتهم وممارساتهم. يشهد المسيحيون وغيرهم كل يوم للطريقة التي تجمع بها هذه الكنيسة، على عكس أي كنيسة أخرى في العالم، عددًا كبيرًا لا يمكن لأحد أن يحصيه، من كل أمة، من جميع القبائل والشعوب واللغات الذين يأتون إلى هنا للوقوف أمام العرش وأمام الحمل الوديع (رؤيا 7: 9). هذه في حد ذاتها معجزة أعظم من النور المقدس، لأن كل المعجزات يجب أن تشير فيما وراءها إلى الله وإلى مقاصد الله. 

 هذا العام، كما هو الحال في كل عام، ستجتمع معنا الطوائف المسيحية الأخرى التي تشاركنا في رعاية وخدمة كنيسة القيامة، ليس فقط كمراقبين من أماكنهم في الكنيسة، ولكن متحدين معنا في صلواتهم للشكر على هبة القيامة. 

 هذا هو الاحتفال في كنيسة القدس. هذا هو السبب وراء أن هذا السبت بالتحديد والمعروف في جميع لغات المنطقة – اليونانية والعربية والعبرية – باسم “سبت النور“، وبالتالي فقد دخل في تقويم الأديان الإبراهيمية هنا. 

 لذا، فإن النور المقدس ليس للأرثوذكس فقط،؛ إنه هدية من الكنيسة الأرثوذكسية إلى العالم الذي يمر بصعوبات عديدة وتشويش ويتوق إلى النور الحقيقي الذي ينير الجميع (يوحنا 1: 9). 

ما رأيكَ في إمكانية توحيد تاريخ عيد الفصح لجميع المسيحيين؟ 

وجود موعد عالمي للاحتفال بعيد الفصح لَهُوَ أمرٌ مهم. 

يجب أن ننظر لهذا السؤال في ضوء الرحلة المسكونية. الهدف الحقيقي من الرحلة المسكونية هو استعادة الكأس المشتركة لجميع أتباع المسيح. يجب أن تكون وحدتنا السّرية في الإيمان والمحبة هدفنا دائمًا. في الآونة الأخيرة، قد تلاشت هذه الغاية للخلف، لكن يجب علينا استعادتها ووضعها في مقدمة أولوياتنا. بهذه الطريقة فقط سيكون لدينا فرصة حقيقية لتجسيد الكلمات التي صلى لأجلها ربنا يسوع المسيح لأبيه عندما قال، “أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكْتَمِلُوا فَيَصِيرُوا وَاحِداً” (يوحنا 17:23). 

إن وحدتنا في الإيمان والحياة مهمة ليس فقط لأجل الكنائس؛ بل هي أمر حاسم لشهادتنا المشتركة للعالم. يجب أن نتذكر أن ربنا صلّى من أجل وحدة أتباعه ليس من أجلهم، ولكن “حَتَّى يَعْرِفَ الْعَالَمُ”، كما قال، “أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي وَأَنَّكَ أَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِي” (يوحنا 17:23). 

في هذا السياق، يجب أن نعمل على تحديد موعد مشترك للاحتفال بعيد الفصح. هذه ليست مسألة راحة بالنسبة لنا؛ إنما مسألة شهادتنا لحقيقة وقوة القيامة. يشترك جميع المسيحيين في هذه القناعة الأساسية، بأن ربنا يسوع المسيح قد قام من بين الأموات، وداس الموت بالموت، ووهب الحياة لمن في القبر (طروبارية الفصح). لذا، فإن موعدًا مشتركًا للاحتفال بعيد الفصح سيكون خطوة حقيقية إلى الأمام باتجاه الأمانة لصلاة ربنا من أجل وحدة جميع تلاميذه. 

الجواب موجود بالفعل. لنعيد وحدتنا على الأساس الذي أرساه الإيمان باعتراف كنائس المجامع المسكونية وقبولها. كان مجمع نيقية في عام 325 هو الذي حدد حساب تاريخ الفصح الذي نتبعه حتى يومنا هذا. لذلك، بالطبع نريد تاريخًا مشتركًا، لكن يجب أن نأخذ في عين الاعتبار وبجدية حقيقة أن الكتاب المقدس مكوّن من ناموس موسى والعهد الجديد. علينا أن نضع في اعتبارنا أن هناك خطوات من ناموس موسى إلى وصايا المسيح. ليس لدينا الحق في تغيير أو إرباك مسار التاريخ المقدس، مما يعني أن عيد الفصح المسيحي يجب أن يقع بعد عيد الفصح اليهودي. مع وضع هذه الاعتبارات في أولوياتنا، نرحب بموعد مشترك لعيد الفصح. الفصح المسيحي هو أساس الإيمان المسيحي، وذروة الإيمان المسيحي هي القيامة، كما نقرأ في كلمات القديس بولس، “فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قِيَامَةُ أَمْوَاتٍ فَلاَ يَكُونُ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ! وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ، فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضًا إِيمَانُكُمْ” (1 كو 15: 13-14). 

Leave A Reply