عظة بطريرك القدس للاتين بييرباتيستا بيتسابالا
الأحد الثالث عشر من الزمن العادي، السنة ب
٢٧ حزيران ٢٠٢١
نقرأ اليوم في الفصل الخامس من إنجيل مرقس مقطعاً شيقا. في الواقع، غالباً ما نجد في الأناجيل روايات شفاء لمختلف أنواع الأمراض. إلا أن رواية هذا اليوم تتكلم عن معجزتين توأمين، منسوجتين بإحكام، وتشتركان في بعض العناصر. إنها رواية واحدة تتفرع إلى عدة مشاهد.
لنتوقف عند بعض تفاصيل هذه الرواية.
أول عنصر هو العدد اثنا عشر.
اثنا عشر عاما هو عمر ابنة يائيرس التي شارفت على الموت، كما هو عدد السنوات التي عانت فيها المرأة من نزيف مزمن. اثنا عشر كان عمر الزواج للفتاة اليهودية. في ذلك السنّ، تزهر الحياة، ويصبح المستقبل منظورا وواعدا بالخصوبة. ولدى هاتين المرأتين، يرتبط العدد بخبرة موت وليس بخبرة حياة، ذلك لأن حياتهما في هذه اللحظة كانت مهددة بالموت.
وهذا الموتً هو العنصر الثاني الذي يفرض ذاته بقسوة. قسوة الموت تصفع فتاة شابة، وتُلحق الضرر بحياتها في لحظة من الواجب أن تكون فيها الحياة واعدة ومزهرة.
نتعامل هنا مع قسوة الموت، الذي يهجم على الحياة. إنه موت يبدو وكأنه يستمتع بطرد الحياة.
ولهذا الموت حلفاء بين الأحياء. في حالة المرأة المنزوفة، الحلفاء هم الأطباء الكثيرون. وفقا للقديس مرقس، جعل الأطباء حالتها أكثر سوءا، وبدلاً من مساعدتها زادوا معاناتها وسبّبوا لها خسارة مالية كبرى (مرقس ٥: ٢٦).
كما وإن للموت حليفاً آخراً، هو العار الذي أحاط بتلك المرأة باعتبارها شخصاً نجسا. حليف آخر للموت هو طريقة عيش التدين، طريقة تستقصي المرضى وتصنّفهم بشكل عشوائي، لأنها تربط بين الألم والخطيئة. فبدلاً من تخفيف الألم يأتي التدين الزائف ليقمع ويجلد.
أما الحليف الأخير للموت فهو اليأس. بينما كان يسوع يتكلم مع المرأة، وصل أشخاص من بيت يائيرس يقولون إنه لم يبق شيء يمكن عمله للفتاة (مرقس ٥: ٣٥). لم يبال يسوع بكلامهم، فدخل البيت فضحك منه بعض الأشخاص (مرقس ٥: ٤٠)، لادعائه منح الحياة من جديد.
الموت مارد جبار لا يستطيع أحد الانتصار عليه. يتمثّل حلم الإنسان الأكبر في الانتصار عليه واسترجاع الحياة بالقوة الذاتية. إلا أن هذا الحلم مستحيل لكونه يفوق قدرة الانسان.
كيف وأين يمكن للحياة أن تزهر؟
يخبرنا إنجيل اليوم أن الحياة تصبح ممكنة عندما يتقبل المرء محدوديته ويلجأ إلى من يستطيع فعلاً أن يمنح الحياة. حينئذ فقط، أي عندما يتوقف الإنسان عن رغبته في تخليص نفسه بنفسه، ويسير بدل ذلك وراء الرب، يحصل على الحياة. عندما أنفقت المرأة كلّ ما تملك، وعندما شارفت الفتاة على الموت، بدا المستحيل ممكنا. نحن أيضا، سنصل إلى السنة الثانية عشرة: سيبدو في أولها أنه تم فقدان كل شيء. ولكن بفضل الرب مانح الحياة، سيبدأ كل شيء من جديد. سيصل معطي الحياة إلى البيت ويهزم الموت، تماماً كما ورد في الإنجيل الذي قرأناه قبل ثلاثة آحاد (مرقس ٣: ٢٠– ٣٥) وهو أن الرجل “الأقوى“، يسوع، يدخل إلى بيت رجل قوي ويبطل قوته.
ولكي يتسنى استعادة هذه الحياة الجديدة من خلال المسيح، من الضروري لإنسانيتنا أن تعي عجزها في التغلب على الشر وحدها، وأن تبحث عن الخلاص حيث يمكنها العثور عليه. وسيتولى الرب الاهتمام بباقي الأمور. في البداية، تقصد المرأة يسوع بإيمان “بدائي” وخيالي بعض الشيء، مكتفية في أن “تخطف” معجزة من دون أن تُعرف هويتها. يلتقي الرب بها هناك، ويأخذها إلى أبعد من ذلك، ويخلصها من عارها ويجعلها تقف أمامه وأمام الآخرين بكرامة ودون أن تكون أسيرة للخوف، لأنها ابنة للرب (مرقس ٥: ٣٤). يطلب منها يسوع ألا تبقى نكرة ويدعوها أمام الجمع أن تكون امرأة ناضجة تتحمل مسؤولية أعمالها.
من أجل حصول مثل هذا التغيير الهام، على الإنسان اجتياز حاجز الموت والخوف. عليه أن يؤمن بالمستحيل. وعندما يبدو أن كل شيء أصبح مفقودا، يعطي الرب الأمل ببداية جديدة. إن حدث ذلك معنا، فلنصلّ أكثر من أي وقت مضى. هنا، ومن أعماق اليأس، تلد الصلاة الحقيقية، ونولد من جديد من خلال لقائنا الحقيقي والعميق بالمسيح، وتتحقق فينا الكلمة الإلهية التي قالها يسوع: “إيمانُكِ خَلّصَكِ” (مرقس ٥: ٣٢).