هل الله موجود؟

نورسات الاردن – الخوري أنطوان الدويهيّ

أعرف أنَّه لا يؤمن بوجود الله. فقد والده مذ كان في السادسة من عمره. تزوَّجت أمُّه ثانية من رجل لا يعرف للرحمة دربًا. عامله كالخادم في البيت إلى أن ترك البيت وهو في العاشرة من عمره. أضحى ابن شارع بامتياز، لا يتكلَّم إلاَّ الكلام القبيح، ولا يقوم إلاَّ بأعمال وضيعة دنيئة كالسرقة واختلاس المال من جيوب الناس على حين غفلة. ولكنَّه وقع مرَّة بأيدي الشرطة بعدما أُمسك يسرق بالجرم المشهود.

دخلتُ إلى السجن للإرشاد والتوجيه فقابلني بشتى أنواع الشتائم. هو اليوم في الرابعة عشرة من عمره. ناضج بما فيه الكفاية. يعرف كلَّ حركة يقوم بها أيُّ إنسان. لا يمكن التلاعب معه. جئتُ وقعدتُ قبالته دون أن أنطق بكلمة مدَّة نصف ساعة، وهو يكيل لي كلَّ أنواع الشتائم. وعندما توقَّف عن الكلام نظرتُ إليه وابتسمتُ له ابتسامة مليئة حبًّا وتعاطفًا. فاحتار في أمره، ماذا يفعل؟ أيهجم عليَّ ويضربني؟ ولكنَّه رآني ضخم الجثَّة. راح ينظر حوله لا يدري ماذا يفعل؛ وإذ لم يجد ما يفعله وضع رأسه بين يديه وأجهش في البكاء. فاقتربتُ منه ببطء وضممته إلى صدري. فلم يبدِ أيَّة حركة انزعاج. وعندما توقَّف عن البكاء نظر في عينيَّ مباشرة قائلاً:

“هل الله موجود؟ وإن كان موجودًا لماذا يجعل الأطفال يتامى؟ لماذا يموت الوالدون باكرًا؟ لماذا يعامل الكبير الصغير معاملة قاسية؟…” وبكلِّ بساطة أجبته: “ليُظهر حبَّه…”

ففغر فاه وقال: “ماذا قلت؟ ليُظهر حبَّه؟ لا، لا… هذا جنون. هذا عذاب لا بل هذا تعذيب من قبله.

فقلتُ له: “كيف تختبر الحبَّ إن لم تختبر القساوة؟ كيف تختبر أنَّك تعيش في راحة إن لم تختبر التعب والشقاء؟ نعم. أنت، لا تعرف قيمة الأشياء إلاَّ عندما تفقدها؛ كما إنَّك لا تعرف قيمة الأشخاص إلاَّ عندما تفقدهم.

بعد صمت قصير، أجابني: “صحيح. كنتُ أشعر بالأمان عندما كان أبي موجودًا، وهذا ما فقدته عندما فقدتُ والدي. كما فقدتُ حنان أمّي عندما تزوَّجَت مرَّة ثانية. ولكنَّني شعرتُ أنَّها كانت تحنو عليَّ فعلاً بعدما تركتُ البيت. كنتُ أنعم بالراحة في البيت، ومنذ هربتُ لم أعرف للراحة سبيلاً. أتعرف أين شعرتُ بالراحة؟ هنا في السجن. شعرتُ بالراحة والطمأنينة، فأنا محاط بأربعة جدران. فلا يمكن لأحد أن يدخل عليَّ دون إذن الحرَّاس.”

فقلتُ له: “أرأيتُ يا بُنيَّ، أنت لست شرّيرًا، لكنَّ مجتمعك أودى بك إلى ما أنت عليه. الله موجود فعلاً، وهو أرسلني اليوم لأعيدك إلى طيبتك التي فقدتها منذ فترة طويلة.”

قال لي: “ستُخرجني من هنا؟ لا أريد أن أخرج. هنا أشعر بالراحة.” فقلتُ له: “أنت قاصر وعلينا نقلك إلى مركز للتأهيل.” قال لي: “لا بأس، لكنَّني أريد أن أعرف شيئًا عن أمّي.”

وسألتُ عنها. عرفتُ أنَّ زوجها الثاني مات أيضًا إثر حادث سير، ولديها ابنة وحيدة منه. وهي تبحث دومًا عن ابنها مذ ترك البيت. أعدتُه إليها بعدما خضع إلى فترة من التأهيل. وبعد عناق طويل بينهما، نظر إليَّ قائلاً: “حقًّا، إنَّ الله موجود، وهو الذي أرسلك إليَّ لتنقذني من البؤس الذي كنتُ أعيشُ فيه”

Comments are closed.