السراويل الممزّقة

نورسات الاردن :الاب منيف الحمصي

تتحفنا حضارة الاستهلاك، بين الفينة والأخرى، بصرعات تخلو من أيّة قيمة، فائدة، وجدوى. تطلع علينا كي تحقن في شرايينا المزيد من البلبال والضياع والفوضى، فتزداد حالنا سُوءًا. ومع ذلك، يظنّ كثيرون من البشر أنّ لهم في الصرعات هذه فرصًا للفرفشة والانشراح، للمتعة والسرور، تأتي كلّها في النهاية بمثابة تعزية للقلوب المبلبلة بعد كثرة الضغوط.

سأتناول، باقتضاب، مسألة “السراويل الممزّقة” بطريقة تأمّليّة تترك لكلّ واحد أن يستخلص منها ما يشاء.

لو أنّني قلت، قبل أكثر من خمسة عشر عامًا: “أحبّائي الشباب والشابّات، عليكم بالسراويل الممزّقة، فهي تضفي على إطلالتكم قدرًا كبيرًا من الحداثة والرقيّ، لكنت في الحال سمعت: أنت إنسان متخلّف وهمجيّ، فمن يرتدي شيئا ممزّقا دون أن يكون قد أصابه خلل في عقله؟ وهكذا، ما عسى عشّاق الصرعات أن يقولوا اليوم وحالهم كما هو أمامنا؟

عندما يكون التمزّق في الثياب كبيرًا أو صغيرًا، ففي الأمرين ثمّة دعوة إلى رؤية الكلّ من خلال الجزء. خلاصة هذه الرؤية تفضي، على نحو خبيث، إلى عشق الجسد بتسليط الضوء عليه بطرق شتّى. في الأمر تحفيز على عشق المغطّى بتعريته جزئيًا. تُرى ماذا يراد لنا عبر السفر في الجسد من الجزء إلى الكلّ؟ إنّه، ببساطة، صورة جديدة لموضوع قديم. المطلوب أن نتوقّف دائمًا عند الجسد ونغرق في شتّى ما يتّصل به من شهوات. ولكن لماذا يكون الأمر من هذا القبيل؟ لأنّ الحضّ على الشهوات عَتُقَ وضَرَبَه الملَل، فراح المرء يفتّش عن مقاربات لاتخطر ببال كي يشغلنا بالجسدانيّات،الأمر الذي يدعى إليه الكبار والصغار على السواء. المهمّ في الأمر هو الدعوة الى اشتهاء الأجساد، ومن ثَمَّ جعل هذا الاشتهاء هاجسًا في النفس المضروبة بالملل.

ولكنّ أمثال هذه الممارسات لا صلة لها بالإيمان وبعيشه البتّة، سيّما أنّ كثيرين يظنّون أنّهم، في ما هم عليه، يقدرون على أن يقدّموا عبادة لله. كلّا وألف كلّا، لا يقدر من يشتهي الجسد، ويروّج لاشتهاء الجسد، أن يقدّم عبادة لله. من هنا نحن مدعوّون إلى أن نتصدّى لعصرنا بكلّ نتاجه لا أن نأخذ به، بدون تمييز. دعوتنا في كلّ زمان ومكان أن لا نستحي بالمسيح، فهو سوف يستحي أمام الآب بكلّ من يستحي به في هذا العالم. الذين يأخذون بمغريات هذا العصر لا رأي لهم في أيّ شيء يعرض عليهم.والسائرون في ركب هذا الزمان  لا رأي لهم تباعًا بكلّ أمر رصين. كيف نرتدي سروالاً ممزّقًا ونحن نعرف أن لا ذوق في الأمر ولا ترجمة فيه للايمان؟.

السروال الممزّق لا ينمّ عن ذوق البتّة، كما وليس فيه ما يحثّ على عشق الجمال أيضا. انظروا إلى السراويل الممزّقة واحكموا بأنفسكم في الذوق المتّصل بها. والغريب، بعد هذا، أنّ أناسًا يتنقّلون بهذه الثياب وهم يظنّون أنّهم على قدر من السموّ والرفعة والذوق. نحن اليوم نمارس أمورًا كثيرة بدون أيّة قناعة بها. نغيّر ألوان لباسنا بلا قناعة، ونلبس الممزّق بلا قناعة، نسعى إلى الاستهلاك والقنية بلا أيّة قناعة. نلهث إلى اقتناء كلّ جديد وكلّ صرعة، دون أن نعمل العقل والتفكير. حسبنا أن نمتلك ما يُروَّج له فقط، كي يقال إنّنا في ركب الحداثة.

الناس اليوم لا يحملون همّ الاقتناع بما يجدي وينفع. لا يشغلهم أمر الآخرة، وهم في مهد الأديان. أين يبقى الإيمان في النفس إن كان الناس استهلاكيّين؟ صحيح جدًّا قول الكتاب: متى جاء ابن الانسان هل يجد إيمانًا على الأرض؟

ما كتب ليس إلا غيضًا من فيض في هذه العجالة الصغيرة.

الناس يسيرون في كلّ شيء نحو الاستسلام ، دونما مناعة في النفس والعقل على السواء. ومن هكذا حالهم يتّجهون إلى الهاوية لا محالة. “من له أذنان للسَّمع فليسمع” (متّى 11 : 15).

Comments are closed.