الصوم الطيّب

نورسات الاردن: بقلم_ المطران جورج خضر

عقل الإنسان يذهب الى الإمساك عن طعام وشراب – وهذا ما نمارسه – والكلمة تقول: “ليس ملكوت الله طعامًا وشرابًا”.

ان تمنع عن فمك طيبات هذا هو الحد الأدنى لمجاهدة الامتناع فيها رمز فقط، صورة عن الفقر أو عن خطاب نقول فيه تصويريا ان احدًا منا بلا امتناع لن يكون رسولا أو لا يكون محبا أو ينسى انه من تراب.

جميلة هذه الحركة التي يرسم بها الكاهن الماروني صليبًا من رماد على جبين المؤمنين ليذكّرهم بأنهم ان لم يتوحّدوا بالأرض ليسوا على شيء.

وجميل كفاح جيل عرفته قبل سبعين سنة من اليوم حيث ابناء كنيستي كانوا يمسكون حتى صلاة الغروب واذا أدوها يأكلون وجبة في اليوم واحدة. كل القضيّة قضيّة هذه النفس. أين أنت منها واين هي من كيانك؟ وكيف تسير الى الله الكامن فيك ثم اذا أدركته تكون وراءه واذا وصلت اليه يأخذك معه أو يأخذك فيه.

ان لم تكن في الحضرة وترقص حولها كالدراويش لست ترى شيئا من صيامك وليس هو تكثيفا لهذه الحضرة في النفس. وهذا لا يتمّ الا بالفرح اذ يقول في الكتاب: “فاذا صمت فادهن رأسك واغسل وجهك لئلا تظهر للناس صائما بل لأبيك الذي في الخفية. وأبوك الذي يرى في الخفية يجازيك علانيّة”.

انت ابن اذا جعت اليه وفي المصطلح المسيحي اذا أكلت جسد ابن الله أي اذا اتحدت بذاته فصعدت اليه أو نزل اليك اذ بينك وبين السماء سلّم يصعد وينزل عليها ابن البشر وانت تلتحق به اذا صقلت نفسك ويلقاك عندما تحلو اليه أو اذا اشتاقك ورآك تتروّض بتعب ولكن بحب.

مَن لم يعرف هذا الجهاد تفوقه رؤى والرؤية هي التي تتكلّم ومع انك تصوم لله وحده اذ معه هو القران غير ان الكتاب في مستهلّ إنجيل غد يقول: “ان غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أبوكم السماوي أيضًا. وان لم تغفروا للناس زلاتهم فأبوكم ايضا لا يغفر لكم زلاتكم”.

انت لا تصوم للناس ولكن تصوم مع الناس. تضمهم اليك أي تلغي بالسماح عنهم خطاياهم لأنك ان لم تستدخلهم قلبك فليس الله في قلبك. تفريغ قلبك من التأذي الذي حصل فيه شرط سكنى الله فيك. عندنا مساء يوم الأحد قبل الصوم رتبة للغفران. فبعد انتهاء خدمة الغروب نركع حتى الأرض أمام كل الحاضرين واحدا بعد واحد ونقول: “اغفر لي يا اخي انا الخاطئ” ثم ننتصب ونقبله وهو يعمل الشيء عينه والا لا نكون مؤهلين للولوج بالصوم. الصوم لا يحدث فيك طهارة آليّة. هو يذكّرك بالطهارة التي نزلت عليك لما استهللته. الصيام عمليّة مزدوجة: تفرغ نفسك من الطعام وتملأها بالصلاة وقراءة الكلمة.

ليس هو مجرّد حمية. ما يحميك في الحقيقة ربّك ويحصنك. حاول ان تذهب كل يوم الى الكنيسة على الأقل مرة عند المساء لتنزل عليك معاني التوبة لتتحرّر من حب الرئاسة والكلام البطال كما يقول افرام البار وتكتسب “روح العفّة واتضاع الفكر والصبر والمحبّة”.

اتضاع الفكر محور هذه الطلبات. تدرب على الا تعتبر نفسك شيئا حتى يصبح الله في عينيك كل شيء فهو الذي أقامك من العدم الى الوجود. هل تستطيع ان تقول مع بولس: “جاء المسيح يسوع ليخلّص الخطأة الذين أولهم أنا”. المقطع الأخير من التلاوة الإنجيليّة غدا هو هذا: “لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض حيث يفسد السوس والآكلة وينقب السارقون ويسرقون. لكن اكنزوا لكم كنوزا في السماء… لأنه حيث تكون كنوزكم هناك تكون قلوبكم”.

أبدأ بالمسؤولين في الكنيسة.

في هذا يقول الأسقف بولس البوشي المصري المتوفى السنة الـ 1240: على الرسول ان يكون فقيرا. لا السيف ولا المال ولا النفوذ ولا العلم يبلّغ الرسالة. التبليغ يتم بالإله الذي فيك وهو ينطقك. وقد تنطق وتبلغ الرسالة بطهارتك وما عدا ذلك باطل. تجرّد من كل اقتناء لتقول والا يكون اقتناؤك هو المتكلّم. عندما سُئل سقراط كيف تزعم انك تقول الحقيقة. قال: فقري. كل كنيسة رئيسها قوي بقوة هذا العالم لا تستطيع ان تبلغ الرسالة. هذا الانسان غناه يجمّله. اذًا ليس عنده جمال في ذاته. ذاته المليئة من الله هي التي تصل الى الذوات الأخرى. الكنيسة من حيث هي مؤسسة اتمناها غنية لتخدم الفقراء، لتكون كنيسة الفقراء الذين هم سادتها. المال مفسد عادة لأنه سلطة و”كل سلطة تفسد والسلطة المطلقة تفسد مطلقًا”. الجبابرة فقط يستطيعون ان يهربوا من هذه القاعدة. لذلك كان الفقر هو الأسهل لخلاص النفس.

اعطِ تُعطَ احيانا هنا ليزيد امكانك على العطاء وتعطى دائما من فوق. في القرن الاول من المسيحية في روما اذا لاحظ المؤمنون ان فيهم معوزين كانوا ينقطعون عن الطعام ليوزعوا ثمنه على المعوزين. كان هذا بدء مؤسسة الصوم عندهم حتى قال القديس يوحنا الذهبي الفم في آخر القرن الرابع: “ليس في روما من محتاج واحد مسيحيا كان ام وثنيا”. الإحسان هو البعد الجماعي للصوم. بتعبير أبسط انت تمسك لتحب. ان انت اخترت الفقر تكون قد اخترت العطاء. تكون قد تحررت من فاعليّة أهل الدهر الحاضر لتحصل على فاعليّة أهل الملكوت أي انك تدخل الى نفسك الملكوت وتسكن فيه وتصبح بلا حاجة عملا بقول الكتاب: “اطلبوا اولا ملكوت الله وبرّه والباقي يُزاد لكم”.

تتدرّب ان فهمت هذا ان الله كنزك الوحيد وهو يطعمك كما يطعم العصافير ويزيّنك كما يزيّن زنابق الحقل ويضيئك كما يضيء النجوم فاذا رأيت نفسك عديم الملك يصبح الله مالكك وبه تستغني عن كل ما عداه.

Comments are closed.