مسلم حامل مفتاح كنيسة القيامة جيلا بعد جيل

نورسات الاردن

تعتبر كنيسة القيامة من أقدس الكنائس في العالم وأكثرها أهمية، فهي قد بنيت وفقاً للمعتقدات المسيحية، فوق صخرة الجلجثة التي صُلب عليها السيد المسيح، وتحتوى وفق معتقدات الكنائس السابقة للانشقاق البروتستانتي على القبر المقدس الذي دفن فيه يسوع المسيح، فيما تعتقد الكنائس البروتستانية أن موقع الجلجثة كان قريباً جداً من مدخل البلدة القديمة في مكان يدعى “حديقة القبر”.

تتولى الكنائس الأررثوذكسية والأرمنية والكاثوليكية الإشراف على الكنيسة، بينما تتقاسم الكنائس الأرثوذكسية الشرقية والكاثوليكية والأرمنية إضافة الى الكنيستين القبطية والسريانية مرافق الكنيسة. سميت الكنيسة بالقيامة نسبة الى قيامة السيد المسيح من بين الأموات، تفرض كنيسة القيامة حضورها في قلب المدينة المقدسة اذ يأتيها المؤمنون من كل بقاع الأرض مسيحيين ومسلمين، ويعتبر عيد الفصح أو عيد القيامة من أهم المواسم وأكثرها حضوراً للكنيسة، بخاصة أسبوع الآلام ودرب الصليب، إذ تنعكس طقوس العيد على القدس القديمة بأزقتها وشوارعها، وتسمع أجراس الكنيسة في أرجائها معلنة الموت والقيامة.

عام 1187 استرد صلاح الدين الأيوبي القدس من أيدي الصليبين وعهُد لعائلة مسلمة الوصاية على مفاتيح الكنيسة، وهي عائلة جودة الحسيني، بموافقة رؤساء الطوائف الستة ومباركتهم، بينما أوكلت مهمة فتح وإغلاق الأبواب لعائلة مسلمة أخرى هي عائلة نسيبة، في خطوة الهدف منها تأكيد سلطة المسلمين على المدينة المقدسة. يصف أديب جودة الحسيني آل غضية أمين مفتاح كنيسة القيامة وحامل ختم القبر المقدس نفسه “أنه مسلم الديانة … مسيحي الثقافة”، ويقوم بهذه المهمة منذ ما يزيد على أربعين عاماً ويتولى مهمة استقبال كبار الضيوف والزوار للكنيسة، إلا أنه رفض عام 2018 استقبال نائب الرئيس الأميركي مايك بينس خلال زيارته إلى كنيسة القيامة، وذلك على خلفية أعتراف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بمدينة القدس”عاصمة لدولة إسرائيل”. في لقاء خاص مع “النهار العربي” قال أديب جودة الحسيني آل غضية، “إن حكاية العائلة مع المفتاح بدأت قبل أكثر من ثمانية قرون، عندما حرر صلاح الدين القدس من أيدي الصليبيين، حيث أشار عليه مستشاروه بهدم كنيسة القيامة، ولأنه كان قائداً حكيماً رفض ذلك وفي المقابل قام بأحياء العهدة العمرية التي كانت اندثرت بسبب إهمال السلاطين لها وعدم احترامهم لما جاء فيها، فقاموا بهدم الكنائس ومنهم الحاكم بأمر الله الذي أوعز بهدم كل الكنائس المسيحية في بيت المقدس، لكن صلاح الدين جمع رؤساء الكنائس وذكرهم بالعهدة العمرية التي خرجت للعالم من كنيسة القيامة، والتعايش الإسلامي – المسيحي في المدينة وأخبرهم أنه يريد أن يقوم بترتيبات تمنع على أي سلطان متزمت قد يأتي بعده بهدم الكنائس أو التضيق عليهم”. ويشير جودة الى أن مفتاح الكنيسة يعود إلى العهد الصليبي وقد تم صنعه تحديداً في 15 تموز (يوليو) عام 1149″.

ويضيف جودة أنه “تم اختيار عائلة جودة الحسيني للقيام بهذه المهمة لأن سلالة العائلة تعود الى سلالة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، من آل البيت كما أن أجداده زمن صلاح الدين كانوا من شيوخ المسجد الأقصى المبارك، وأن فكرة تسليم عائلة جودة الحسيني آل غضية المفتاح جاءت لحماية الكنيسة للأمد البعيد، فأي سلطان متزمت قد يفكر في القيام بأي خطوة اتجاه الكنيسة سيتوقف مرتين لأن مفاتيحها مع آل البيت، ولا يمكنه أن يجادل آل البيت ولذلك وافق رؤساء الكنائس الستة على هذا الترتيب”. ويشرح جودة أنه “خلال فترة الانتداب البريطاني وتحديداً بعد وصول الجنرال أدموند اللنبي الى القدس كانت هناك محاولة جدية لاستعادة المفتاح، حيث قام اللنبي باستدعاء جدي إلى مقر قيادة الحكم العسكري البريطاني في شكل رسمي، وطلب منه أن يحضر مفاتيح كنيسة القيامة معه، فذهب جدي الى القيادة وقابل الجنرال الذي طلب منه أن يشرح له ويوضح كيف لمسلم يرتدي العمامة أن يحمل مفاتيح أهم كنائس العالم، فروى له جدي قصة صلاح الدين بعد تحرير القدس، فما كان من الجنرال اللنبي إلا أن أمسك المفتاح وقبّله وقال لجدي أن صلاح الدين لن يكون أكثر كرماً مني لذلك أعيد اليك المفتاح وأتمنى أن تواصلو هذه المهمة في المستقبل”. ويشير جودة الى أنه قد تعلم أداء مهمات هذه الوظيفة من والده، قائلاً: “رافقته مذ كنت طفلاً صغيراً في جميع المراسم والاحتفالات، وأثناء تواجده في الكنيسة… إنه شعور لا يوصف أن تكون في كنيسة القيامة حيث تألم السيد المسيح (عليه السلام)، فنحن كمسلمين نؤمن بالسيد المسيح ووالدته مريم (عليهما السلام) التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، إنها أطهر نساء الأرض. نحن حافظنا على كنيسة القيامة بدمائنا وأحساسنا وبأموالنا هذا الصرح الديني العظيم”. وعن أهمية الختم المقدس يوضح جودة أنه “خلال احتفالات سبت النور وتحديداً في الساعات التي تسبق خروج النور نقوم بتفتيش القبر المقدس والتأكد من خلوه من أي شعلة أو وسيلة إشتعال، تقوم بعدها طائفة الروم الأرثوذكس بإغلاق الباب الخارجي للقبر المقدس بالشمع الممزوج بالعسل، وهنا أقوم بوضع ختمي عليه إيذاناً ببدء عيد الفصح المجيد عند الإخوة المسيحيين. هذا هو الطقس الأكثر تميزاً في كنيسة القيامة”.

ولفت جودة الى “أنهم كعائلة مسلمة من أكثر الأطراف تمسكاً وحفاظاً على (الستاتوس-كو) أو الوضع القائم في كنيسة القيامة”، مشيراً الى أن “الوضع القائم يتعرض باستمرار لمحاولات تخريب أو إخلال من قبل السلطات الإسرائيلية لأنها سعت وتسعى على الدوام أن تكون لها سلطة على الأماكن الدينية في القدس سواء كانت إسلامية أو مسيحية، ونحن مع الطوائف المسيحية نحاول دائماً الحفاظ على الوضع القائم”. وتحدث جودة عن المستقبل، فقال إنه “بعد عام مظلم وجائحة فتاكة مملوءة بالحزن والأسى والموت، ظهرت بوادر أمل بعد أن تم انتاج اللقاحات، وأننا نشعر في القدس فعلاً بأن الحياة بدأت تعود تدريجياً إلى طبيعتها، بالرغم من أن القطاع السياحي ينازع إلا أن في الأفق بوادر أمل ستعيد الحياة إلى طبيعتها وأن يكون سبت النور وعيد الفصح هذه السنة أفضل من العام الماضي”. وختم جودة حديثه أن أكثر حادثة لا تزال محفورة في قلبه وتعني له الكثير بالرغم من أنها حزينة من ناحية إلا أنها تفرحه من ناحية أخرى، ويروي قائلاً: “في عام 1992 عندما توفي والدي أخذنا جثمانه للصلاة عليه في المسجد الأقصى المبارك… دخل الى المسجد كل من بطريرك الروم الأرثوذكس ذيوذوروس وبطريرك الأرمن طركوم مانوغيان وبطريرك طائفة اللاتين ميشال صباح وحارس الأراضي المقدسة، شاركوا جميعهم في مراسم إقامة الصلاة على والدي ووداعه، وأتمنى أن يقوم أبنائي الثلاثة بالتشاور في ما بينهم لاختيار وريث منهم للمنصب. أنا قمت بشرح المهمات لهم المترتبة عن هذا المنصب وتعليمهم، لكني بانتظار قرارهم لأكمال مسيرة العائلة في المستقبل”.

Comments are closed.