في تقدمة السيد المسيح إلى الهيكل


نورسات الاردن :بقلم الأب نبيل حداد
لا يعدو حدث تقدمة ربنا يسوع المسيح إلى الهيكل في نظر البعض كونه احتفالاً عائلياً. فالمراقب العارض يرى أنه طقس احتفالي عابر أو مجرد لحظة “كوداك” سعيدة لأبوين جديدين. وقد يظنّ آخرون أنها واحدٌ من طقوسٍ غريبةٍ وذات أهمية ثانوية، ولا تنطوي على أهمية روحية حقيقية.
يشكّل الثاني من شهر فبراير شباط للمسيحيين الذين يقرأون الإنجيل بعيون الإيمان عيدًا ساميًا ومقدسًا للكنيسة، ففي يوم تقدمة يسوع المسيح في تمام الأربعين تم البلوغ إلى معلَمٍ عظيم في مسيرة خلاصنا.
يقضي ناموس موسى بإحضار الابن البكر فاتح رحم أمه إلى الرب في اليوم الأربعين، في عبادة للّه، قُدُّوسًا لِلرَّبِّ. («قَدِّسْ لِي كُلَّ بِكْرٍ، كُلَّ فَاتِحِ رَحِمٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، مِنَ النَّاسِ وَمِنَ الْبَهَائِمِ. إِنَّهُ لِي» خر 13: 2، لاويين 12). وهكذا، وطبقًا للوصية القديمة، حملت العذراء مريم والدة الإله ويوسف طفلها البكر يسوع إلى الهيكل. كانت نيتهم ​​ببساطة تقدمته إلى الرب، لتعود فتفتديه على ما جاء في شريعة موسى.
ما حدث كان تحوّلا في طبيعة طقس العبادة هذا، وهو أمر لا يجوز أن يفاجئنا نحن الذين يحفظون أعيادنا الكنسية. فالذي أعلن لرسوله يوحنا “ها أنا جعل كل شيء جديدًا” (رؤيا 21: 5) كانت رسالته الخلاصية تجديد كل خليقة بتجسده. لقد حوّل المسيح جوهرَ إنسانيتنا.
في عيد الغطاس دخل السيد المسيح إلى نهر الأردن وغير طبيعة المياه، وحوّل النهر الرافد للبحر الميت إلى وسيلة نعمة وحياة جديدة بمعموديته. في هذا العيد الحاضر، يغير ربنا طبيعة العبادة من خلال مشاركته في عبادة العهد القديم، مما يشير إلى إعلان “نعمة مكان نعمة” التي ستأتي في عبادة العهد الجديد بدمه. فعيون سمعان الشيخ تبصر التحول إلى المسيح الطفل، من خلال تقديمه في الهيكل، الذي يبارك ويؤسس جوهر عبادتنا الإفخارستية. وهكذا يقول سمعان: “الآن تطلق عبدك أيها السيد حسب قولك بسلام لأن عينيّ قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته أمام وجوه الشعوب كلها” (لوقا 2: 29-31).
كان الجنس البشري منذ الأزل، يمارس العبادة من خلال تقديم الذبائح، في تعبير واضحٍ عن الخوف. فكانت توضع العجول على المذابح وتقدم الحبوب ويُراق الخمر وسط توسّل مرتجف مرتعد أمام قوى الآلهة. لم تكن هذه القرابين سوى نسبة من ممتلكات يقدمها العابدون فداءً عن أرواحهم. وبالطريقة عينها، في يوم التقدمة، قدم الأبوان الجديدان المتواضعان من بيت لحم قرباناً من حمامتين (لوقا 2 :24) لإله إسرائيل.
لكن هذا الحدث اليوم يشير إلى نهاية عصر الذبائح الحيوانية الدموية وظهور عبادة العهد الجديد. فمن الآن وصاعدًا سنقول “ما لك مما هو لك نقرّبه لك”. إن التقدمة لله هي الله نفسه في الجسد، والجسد المكسور والدم المهراق سيكونان للرب وحده، الذي في شخصه تمّت المصالحة بين الله والإنسان.
ينكشف هذا السر في حدث تقدمة المسيح في الهيكل. تضع والدة الإله وهي الشخصية الأسمى في الكنيسة، المسيح بين يدي سمعان وهي تتقبله مرة أخرى. وفي هذا اشارة لعبادتنا نحن في القداس الإلهي في الطقس البيزنطي. فعلى مثال سمعان الشيخ، يقبَل الكاهنُ المسيحَ (الحمل) في يديه في رتبة الرسامة الكهنوتية. إنه يتلقى “الوديعة” في احتفال سيامته، عندما تضع أمّنا الكنيسة، بواسطة يد الاسقف، جسد ربنا يسوع المسيح وديعةً في راحة يد المرتسم. وهكذا يحمل كلّ كاهن المسيح في قدس الاقداس، مثل سمعان، وبصوت مرتفع يبارك اللّه العليّ (“أَخَذَهُ عَلَى ذِرَاعَيْهِ وَبَارَكَ اللهَ وَقَالَ..” (لوقا 2: 28). ومثل سمعان أيضاً، يخرج الكاهن مرة أخرى من قدس الأقداس ليقدّم المسيح إلى الكنيسة، فيوزّع “جسده الطاهر ودمه الكريم” على المؤمنين لمغفرة الخطايا وللحياة الأبدية
لقد رأى سمعان الشيخ في تلك اللحظة المجيدة إعلان خطة الله للخلاص في وجه الطفل البالغ من العمر أربعين يومًا بين ذراعيه. وتنبأ بنهاية ذبائح الدم على مذابح الحجارة. وأدرك أن ابن الله يعيش إلى الأبد ليشفع فينا (فَمِنْ ثَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَ أَيْضًا إِلَى التَّمَامِ الَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ بِهِ إِلَى اللهِ، إِذْ هُوَ حَيٌّ فِي كُلِّ حِينٍ لِيَشْفَعَ فِيهِمْ عبرانيين 7 : 25) ليكون “المقرِّبُ والمُقرَّب”، “القابلُ والموزَّع” على شعبه إلى أقاصي الأرض. لما رأى سمعان هذا الإعلان آمن، ولذلك قال هذه الكلمات: “عينيّ قد أبصرتا خلاصك، نورا ينجلي للأمم، ومجدا لشعبك إسرائيل” (لوقا 2: 30).
يحتوي مشهد تقدمة المسيح في الهيكل على جوهر عبادتنا في العهد الجديد. فلم نعد نأتي إلى هيكل الله خائفين حاملين قرابيننا من الذبائح. فنحن نقدم الآن من خلال الإفخارستيا ذبيحة حية في شخص ابن الله، الذي يكون معنا كلما اجتمعنا معًا باسمه (متى 18: 20)، ومن ثمَّ يُعاد إلينا، كي نصبح “ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً لَدَى اللهِ” (رومية 12: 1).
بالمقابل، يصبح كل واحد منّا سمعانًا آخر عندما نقبل المسيح في شخص الفقراء والمحتاجين، والمرضى والمحتضرين، والأرامل والأيتام. وبعبارة أخرى، عندما نقبل اخوتنا الصّغار كما لو كانوا هم المسيح نفسه. إن مهمتنا الإفخارستية، الليتورجيا بعد الليتورجيا، هي احتضانهم، وإدخالهم إلى الكنيسة، وإعلان محبة الله ورحمته وقدرته لهم. وبذلك، نحوّل كل لقاء بشري، وكل لقاء مع شخص آخر، إلى عمل عبادة ، إلى تقدمة المسيح من جديد.
في نهاية الدعوة في حياتنا، نرجو أن يقدر كل منّا على أن يقول لمن قَبِل أن يُحمَل على ذراعي سمعان الصدّيق لأجل خلاصنا “إنّ عينيّ قد أبصرتا خلاصك. أبصرتا نورك للأمم. أبصرتا مجد شعبك …”
عيد دخول ربّنا يسوع المسيح إلى الهيكل 2022

Comments are closed.