البابا فرنسيس: إن كان للكاهن ما يفتخر به، فهو رحمة الله

نورسات الاردن

“إنَّ القلب الكهنوتي يحمل طعم القرب لأنّ الرّبّ هو أوَّلُ من أراد أن يكون قريبًا” هذا ما قاله قداسة البابا فرنسيس في كلمته إلى المشاركين في ندوة حول الكهنوت ينظّمها مجمع الأساقفة

استقبل قداسة البابا فرنسيس صباح الخميس في قاعة بولس السادس بالفاتيكان المشاركين في ندوة حول الكهنوت ينظّمها مجمع الأساقفة تحت عنوان “من أجل لاهوت أساسيٍّ للكهنوت” وللمناسبة وجّه الأب الاقدس كلمة رحّب بها بضيوفه وقال أشكركم على فرصة مشاركتكم هذا التأمُّل، الذي ولد مما جعلني الرّبّ أختبره تدريجيًا خلال أكثر من خمسين عامًا من الكهنوت. لا أريد أن أستثني من هذه الذكرى الممتنة أولئك الكهنة الذين أظهروا لي منذ طفولتي بحياتهم وشهادتهم ما يعطي شكلاً لوجه الراعي الصالح. لقد تأمّلت حول يمكن مشاركته في حياة الكاهن اليوم وتوصّلت إلى استنتاج مفاده أنّ الكلمة الأفضل تولدُ من الشهادة التي تلقيتها من العديد من الكهنة على مر السنين. إنّ ما أقدمه هو ثمرة التأمّل فيهم، والاعتراف والتأمّل في السمات التي ميزتهم ومنحتهم قوّة وفرحًا ورجاءً فريدًا في رسالتهم الرعويّة.

تابع البابا فرنسيس يقول في الوقت عينه، يجب أن أقول الشيء نفسه عن أولئك الإخوة الكهنة الذين كان عليّ أن أرافقهم لأنّهم فقدوا نار حبّهم الأوّل، وأصبحت خدمتهم عقيمة ومتكررة وبلا معنى. يمرّ الكاهن في حياته بظروف ولحظات مختلفة. وأنا شخصيًا، قد مرّرت بالعديد من الظروف، ومن خلال “اجترار” دوافع الرّوح القدس وجدت أنّه في بعض الحالات، بما في ذلك لحظات التجربة والصّعوبة واليأس، عندما كنت أعيش وأشارك الحياة كنت أجد السلام نوعًا ما. أدرك أنّه يمكننا أن نتكلّم كثيرًا وأن نضع نظريات حول الكهنوت، لكنني أريد اليوم أن أشارككم هذا “الحصاد الصغير” لكي يتمكّن كاهن اليوم، مهما كانت المرحلة التي يعيشها، من أن يعيش السّلام والخصوبة اللذين يريد الرّوح القدس أن يمنحهما له. لا أعرف إن كانت هذه التأملات هي “نشيد البجعة” (أي آخر تأملات لي) لحياتي الكهنوتية، لكن يمكنني بالتأكيد أن أؤكد أنّها تأتي من خبرتي.

أضاف الحبر الأعظم يقول إن الزمن الذي نعيشه هو زمن يطلب منا لا أن نشعر بالتغيير وحسب، بل أن نقبله مدركين بأنّنا نقف أمام تغيير عصر. وإن كانت لدينا شكوك حول هذا الأمر، فقد جعل فيروس الكورونا هذا الأمر أكثر من واضح: في الواقع، إنّ اقتحامه لعالمنا هو أكثر بكثير من مجرد مسألة صحيّة. إنَّ التغيير يضعنا على الدوام أمام أساليب مختلفة لمواجهته. والمشكلة هي أنّه يمكن للعديد من الأفعال والمواقف أن تكون مفيدة وجيدة ولكنها لا تحمل جميعها طعم الإنجيل. على سبيل المثال، البحث عن نماذج مشفرة، غالبًا ما تكون مرتبطة بالماضي و”تضمن” لنا نوعًا من الحماية من المخاطر، فنلجأ إلى عالم أو إلى مجتمع لم يعد موجودًا (ولربما لم يوجد قط)، كما لو كان هذا النظام المحدد قادرًا على أن يضع حدًّا للصراعات التي يقدمها لنا التاريخ. قد يكون الموقف الآخر هو موقف التفاؤل اليائس – ” كلّ شيء سيكون على ما يرام” – الذي ينتهي به الأمر بتجاهل جرحى هذا التحوّل والذي يفشل في قبول التوترات والتعقيدات والغموض السائد في الوقت الحاضر و “يكرّس” الحداثة الجديدة على أنّها الحقيقة، ويستخف هكذا بحكمة السنين

هناك نوعان من الهروب، وهما موقفا الأجير الذي يرى الذئب قادمًا فيهرب: يهرب إلى الماضي أو يهرب إلى المستقبل). وهذان الموقفان كلاهما لا يؤديان إلى حلول ناضجة.

ولكن تابع البابا فرنسيس يقول يعجبني الموقف الذي يولد من الثقة في تحمّل مسؤولية الواقع، الراسخ في تقليد الكنيسة الحكيم والحيّ، والذي يمكنه أن يسمح لنا بأن نسير في العُرض دون خوف. أشعر أنّ يسوع، يدعونا مرة أخرى في هذه اللحظة التاريخيّة إلى أن “نسير في العُرض” واثقين أنّه هو ربّ التاريخ وأنه، إذ يقودنا، سنتمكّن من تمييز الآفاق التي علينا أن نسيرها. إنَّ خلاصنا ليس خلاصًا عقيمًا، نتيجة مختبر أو روحانيات نظريّة. إن تمييز مشيئة الله يعني أن نتعلّم كيف نفسِّر الواقع بعيون الله، دون الحاجة إلى الهرب مما يحدث لشعبنا حيث يعيش، ودون القلق الذي يقودنا إلى البحث عن مخرج سريع ومطمئن تقوده الإيديولوجيات السائدة أو أجوبة “معلّبة”، كلاهما غير قادر على تحمّل مسؤولية مراحل تاريخنا الصعبة والحالكة. يقودنا هذان الطريقان إلى أن ننكر تاريخنا، تاريخ الكنيسة، الذي هو تاريخ مجيد لكونه تاريخ تضحيات، ورجاء، وجهاد يومي، وحياة تُبذل في الخدمة، وثبات في العمل الشاق.

أضاف الحبر الأعظم يقول في سياق كهذا، يؤثِّر هذا التحدي أيضًا على الحياة الكهنوتيّة، ويظهر ذلك في أزمة الدعوات التي تعيشها جماعاتنا في أماكن مختلفة. ولكن صحيح أيضًا أنّ هذا الأمر يرجع غالبًا إلى غياب الحماسة الرسولية المعدية في الجماعات التي لا تولِّد الحماس ولا تجذب الأشخاص إليها. حيث يكون هناك حياة وحماسة ورغبة في حمل المسيح للآخرين، تولد دعوات عفويّة. حتى في الرعايا التي لا يلتزم فيها الكهنة جدًّا وليسوا فرحين، لأن الحياة الأخويّة والشغوفة للجماعة هي التي تثير الرغبة في التكرُّس الكامل لله وللبشارة، لاسيما إذا كانت هذه الجماعة الحيّة تصلّي بإلحاح من أجل الدعوات وتتحلّى بالشجاعة لأن تقدّم لشبابها مسيرة تكرُّس خاصة. إنَّ حياة الكاهن هي أوّلًا قصة خلاص المُعَمَّد. لا يجب أن ننسى أبدًا أنّ كلّ دعوة، بما في ذلك الدعوة إلى الكهنوت، هي إتمام للمعمودية. إنّها لتجربة كبيرة على الدوام أن نعيش الكهنوت بدون المعمودية، أي بدون الذكرى بأنّ دعوتنا الأولى هي دعوة إلى القداسة. أن نكون قديسين يعني أن نتشبّه بالمسيح وأن نسمح لحياتنا بأن تنبض بمشاعره. وبالتالي عندما نسعى لأن نحبّ على مثال يسوع، عندها فقط نجعل الله مرئيًا نحن أيضًا ونحقق دعوتنا إلى القداسة. لقد ذكّرنا القدّيس يوحنا بولس الثاني أنّه “على الكاهن، مثل الكنيسة، أن ينمو في الوعي لحاجته الدائمة إلى أن يُبشَّرَ”. وبالتالي على كلّ دعوة محددة أن تخضع لهذا النوع من التمييز. دعوتنا هي أوّلاً وقبل كلّ شيء

جواب للذي أحبّنا أوّلاً. وهذا هو ينبوع الرّجاء لأنّ الرّبّ، حتى وفي وسط الأزمة، لا يتوقف أبدًا عن محبتنا، وبالتالي عن دعوتِنا. وكلّ فرد منا هو شاهد على ذلك: في أحد الأيام وجدنا الرّبّ حيث كنا وكما كنا، في بيئات متناقضة أو في ظروف عائلية معقدة، لكن هذا الأمر لم يبعده عن الرغبة في أن يكتب تاريخ الخلاص من خلال كلّ فرد منا. هكذا كان الأمر منذ البداية – لنفكّر في بطرس وبولس ومتى…، على سبيل المثال لا الحصر -. إنَّ اختيارهم لم ينبع من خيار مثالي وإنما من التزام ملموس مع كلِّ فردٍ منهم. وكلّ فرد منا، بالنظر إلى إنسانيته، وتاريخه الخاص، وطبعه الخاص، لا يجب أن يسأل نفسه إن كان اختيار الدعوة مناسبًا أم لا، وإنما إن كانت تلك الدعوة تكشف بداخله عن إمكانيات الحبّ التي تلقيناها في يوم معموديتنا.

تابع الأب الأقدس يقول خلال مراحل التغيير هذه، كثيرة هي الأسئلة التي علينا مواجهتها وكذلك التجارب التي ستعترضنا. لذلك، أرغب في مداخلتي هذه، أن أتوقف ببساطة عند ما أراه حاسمًا لحياة كاهن اليوم، واضعًا نصب عينيَّ ما قاله بولس: “فيه – أي في المسيح – يُحكَمُ البِناءُ كُلُّه وَيرتَفِعُ لِيَكونَ هَيكلاً مُقدَّسًا في الرَّبّ”. لذلك فكّرت أنّ كلّ بناء لكي يثبت يحتاج إلى أساسات ثابتة، ولذلك أريد أن أتقاسم معكم المواقف التي تعطي الثبات لشخص الكاهن

والأعمدة الأربعة المكوِّنة لحياتنا الكهنوتية والتي سنسميها أساليب “القرب الأربعة”، لأنّها تتبع أسلوب الله، الذي هو بالأساس أسلوب القرب من خليقته. لقد كنت قد أشرت إليها في الماضي، ولكنني أريد اليوم أن أتوقف عندها بطريقة أوسع، لأنّ الكاهن، أكثر من حاجته إلى وصفات أو نظريات، هو يحتاج إلى أدوات ملموسة يواجه بها خدمته ورسالته وحياته اليوميّة. لقد كان القديس بولس يحثُّ طيموتاوس على أن يحفظ حيّة هبة الله التي نالها من خلال وضع يدَيه، والتي ليست روح الخوف، بل روح القوّة والمحبّة والفِطنة. وأعتقد أنّ أساليب “القرب” الأربعة هذه يمكنها أن تساعد بطريقة عملية وملموسة ومفعمة بالرجاء في إعادة إحياء الهبة والخصوبة التي وُعدنا بهما.

أضاف الحبر الأعظم يقول أولاً القرب من الرّبّ، أي القرب من الإله القريب. “أنا الكَرْمةُ وأَنتُمُ الأَغصان. فمَن ثَبَتَ فيَّ وثَبَتُّ فيه فَذاكَ الَّذي يُثمِرُ ثَمَراً كثيراً لأَنَّكُم، بِمَعزِلٍ عَنِّي لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا شيئاً. مَن لا يَثْبُتْ فيَّ يُلْقَ كالغُصنِ إِلى الخارِجِ فَيَيْبَس فيَجمَعونَ الأَغْصان وَيُلْقونَها في النَّارِ فَتَشتَعِل. إِذا ثَبَتُّم فيَّ وثَبَتَ كَلامي فيكُم فَاسأَلوا ما شِئتُم يَكُنْ لَكم”. يُدعى الكاهن أوّلًا إلى تنمية هذا القرب، العلاقة الحميمة مع الله، ومن هذه العلاقة سيتمكّن من أن يستقي جميع القِوى الضرورية لخدمته. إنَّ العلاقة مع الله، إن صحّ التعبير، هي تطعيم يبقينا داخل رابط خصب. بدون علاقة قويّة مع الله، ستُصبح خدمتنا عقيمةً. إنَّ القرب من يسوع والتواصل مع كلمته، يسمحان لنا بأن نقارن حياتنا بحياته ونتعلّم ألّا نتشكك ونعثر لأي شيء يحدث لنا، وأن ندافع عن أنفسنا أمام الشكوك والعثرات. كما كان الحال بالنسبة للمعلّم، سوف تمرون بلحظات فرح واحتفالات أعراس، ومعجزات وشفاءات، وتكثير أرغفة وراحة. كذلك ستكون هناك أوقات قد تُمدَحونَ فيها، ولكن ستكون هناك أيضًا ساعات من الجحود والرفض والشك والعزلة، لدرجة أنّكم قد تضطرون إلى القول: “إِلهي، إِلهي، لِماذا تَرَكْتني؟”. يدعونا القرب من يسوع لكي لا نخاف أيًّا من هذه الساعات – ليس لأنّنا أقوياء، وإنما لأنّنا ننظر إليه، ونتشبث به ونقول له: “يا ربّ، لا تسمح

بأن أقع في تجربة! دعني أفهم أنّني أعيش مرحلة مهمة في حياتي وأنّك معي لكي تختبر إيماني وحبّي”. يأخذ هذا القرب من الله أحيانًا شكل صراع: صراع مع الرّبّ لاسيما في اللحظات التي يكون فيها غيابه محسوسًا في حياة الكاهن أو في حياة الأشخاص الموكلين إليه. وبالتالي سيكون علينا أن نصارع طوال الليل ونطلب بركته، التي ستكون ينبوع حياة للكثيرين.

تابع الأب الاقدس يقول كثيرة هي الأزمات الكهنوتية التي تعود أصولها إلى ندرة حياة الصّلاة، وعدم وجود علاقة حميمة مع الرّبّ، وإلى حصر الحياة الروحية في مجرد ممارسات دينية. أتذكّر لحظات مهمة في حياتي كان فيها هذا القرب من الرّبّ حاسمًا في مساندتي. بدون الصّلاة الحميمة، والحياة الروحية، والقرب الملموس من الله من خلال الاصغاء إلى الكلمة، والاحتفال الإفخارستي، وصمت السجود، والتسليم إلى العذراء مريم، والمرافقة الحكيمة، وسرّ المصالحة، بدون أشكال القرب هذه يكون الكاهن، إن صحّ التعبير، مجرد عامل مُتعب لا يتمتع بفوائد أصدقاء الرّبّ. غالبًا على سبيل المثال نُمارس الصّلاة في الحياة الكهنوتية كواجب وحسب، وننسى أنّ الصّداقة والمحبّة لا يمكن فرضهما كقاعدة خارجية، وإنما هما خيار أساسي

لقلوبنا. وبالتالي فالكاهن الذي يصلّي يبقى، في العمق، مسيحيًا قد فهم بشكل كامل العطية التي نالها في المعمودية. إنَّ الكاهن الذي يصلّي هو ابنٌ يتذكّر باستمرار أنّه ابنٌ وله أبٌ يحبّه. الكاهن الذي يصلّي هو ابنٌ يقترب من الرّبّ. لكن هذا كلّه صعب إن لم تكن معتادًا على خلق فسحات صمت في يومك، وإن لم تعرف كيف تتخلى عن “انهماك” مارتا لتتعلّم “الجلوس عند أقدامه” على مثال مريم. من الصعب أن نتخلى عن كثرة النشاطات، لأنّه عندما نوقف انشغالاتنا، لا يأتي السّلام فورًا إلى قلبنا، وإنما اليأس، ولكي لا ندخل في اليأس، نحن مستعدون لكي لا نتوقف أبدًا. ولكن من خلال قبول اليأس الذي يأتي من الصمت، والامتناع عن النشاطات والكلام، ومن الشجاعة لكي نفحص أنفسنا بصدق، يستمدّ كلُّ شيء النور والسّلام اللذين لا يعتمدان على قوتنا وقدراتنا. وبالتالي يتعلّق الأمر في أن نتعلّم أن نسمح للرّبّ بأن يستمر في تحقيق عمله في كلّ فرد منا وفي تقليم كلّ ما هو غير خصب وعقيم ويشوّه الدعوة. لذلك فإنَّ المثابرة على الصّلاة لا تعني أن نبقى أمناء لممارسة ما وحسب، وإنما ألا نهرب عندما تقودنا الصّلاة بالتحديد إلى الصحراء، لأن الطريق إلى الصحراء هو طريق يقودنا إلى علاقة حميمة مع الله، شرط ألّا نهرب، وألّا نجد أساليب للهروب من هذا اللقاء. ففي الصحراء قال الله لشعبه على لسان هوشع النبي: “سأُخاطِبُ قَلبَه”.

أضاف البابا فرنسيس يقول إنَّ القرب من الله يسمح للكاهن بأن يتواصل مع الألم الذي في قلوبنا والذي إن قبلناه يجردنا من أسلحتنا لكي يجعل اللقاء ممكنًا. إنَّ الصّلاة التي تحيي مثل النار الحياة الكهنوتية، هي صرخة قلب محطم وذليل، لا يزدريه الله – كما يقول لنا المزمور. “صَرَخوا والرَّبّ سَمِعَهم ومِن جَميعِ مَضايِقِهم أَنقَذَهم. الرّبّ قَريب مِن مُنكَسِري القُلوب ويُخَلّصُ مُنسَحِقي الأرْواح”. على الكاهن أن يتحلّى بقلبٍ “واسع” بما يكفي ليكونَ فيه مكانٌ يتَّسعُ لألمِ الشعبِ الموكلِ إليه، وليكونَ، في الوقت عينه، كالرقيب الذي يعلنُ بُزوغ فجرِ نعمةِ الله التي تتجلَّى في هذا الألم. وبالتالي فإنَّ معانقةُ حالةِ شقائِنا، وقبولُها وتقديمها للرب، ستكون المدرسة الأفضل ليتعلَّمَ فيها الكاهن، شيئًا فشيئًا، ويُفسح المجال لكلِّ الشقاء والألمِ الذي سيَلقاه يوميًّا في خدمتِه، لكي يُصبِحَ هو نفسُه مثلَ قلبِ المـسيح. وهذا الأمر سيُعِدُّ الكاهنَ لقربٍ آخَر: القربِ من شعبِ الله. في القربِ من الله يُعزز الكاهن القرب من شعبِه. والعَكس صحيح، لأنه في قربَه من شعبِه يعيش أيضًا القرب من ربِّه. لقد كان يوحنا المعمدان يقول: “لا بدَّ له من أن يَكبُر. ولا بدَّ لي من أن أصغُر”. إن العلاقة الحميمة مع الله تجعلُ هذا كلّه ممكنًا، لأنّنا نختبر في الصّلاة أننا عظماء في عينَيْ الله، وعندها لن تكون هناك مشكلة ابدًا بالنسبة للكهنة القريبين من الله في أن يصبحوا صغارًا في عيونِ

العالم. وهناك في ذلك القرب، لن يكون مخيفًا أبدًا بالنسبة لنا أن نتشبّه بيسوع المصلوب، كما يُطلب منا في رتبة السيامة الكهنوتيّة.

ثانيًا تباع الحبر الأعظم يقول القرب من الأسقف. لقد تمَّت قراءة هذا القرب الثاني لفترة طويلة من جانب واحد فقط. وككنيسة في كثير من الأحيان، واليوم أيضًا، قد أعطينا ​الطاعة تفسيرًا بعيدًا عن الحس الإنجيلي. إنَّ الطاعة ليست صفة تأديبية وإنما هي الميزة الأعمق للروابط التي توحِّدنا في الشّرِكة. الطاعة تعني أن نتعلَّمَ كيف نُصغي وأن نتذكَّرَ أنّه لا يمكن لأحد أن يدَّعي أنَّه يملك إرادةِ الله، وأنّها تُفهَمُ فقط بالتميِيز والحكمة. وبالتالي فالطاعة هي الاصغاء إلى إرادةِ الله، والتي يمكننا أن نمييّزها فقط في إطار علاقة. وموقفُ الإصغاءِ هذا يسمح لنا بأن نُنضِّج فكرة أنّه لا أحد هو مبدأ وأساس الحياة، وإنما على كلّ واحد منا أن نتواجه مع الآخرين. إنّ منطق القرب هذا – في هذه الحالة، من الأسقف، ولكنّه ينطبق أيضًا على الحالات الأخرى – يسمح لنا بمقاومةِ جميع تجارب الانغلاق والتبرير الذاتي، وتجربة أن نعيش حياة “عازبٍ”، ويدعونا لكي نناشد أساليبًا وطرقًا أخرى تساعدُنا لكي نجد الطريق الذي يؤدّي إلى الحقيقة وإلى

الحياة. إنَّ الأسقف، أيًّا كان، يبقى، لكلّ كاهن ولكلّ كنيسة خاصة، رباطًا يساعد على تمييز إرادة الله. لكن لا يجب أن ننسى أنّ الأسقفَ نفسه يمكنه أن يكونَ أداةً لهذا التمييز، فقط إذا أصغَى هو أيضًا إلى واقعِ كهنتِه وشعبِ الله المقدّس الموكلِ إليه. كتبتُ في الإرشاد الرسولي “فرح الإنجيل”: “نحن بحاجة إلى أن نتدرَّبَ في فنِّ الإصغاء، الذي هو أكثرُ من الاستماع. إنَّ أوّلُ شيء، في التواصل مع الآخر، هو قدرة القلب التي تجعل القُربَ ممكنًا، وبدونها لن يكون هناك لقاءٌ روحيٌّ حقيقيّ. يساعدُنا الإصغاءُ على تحديدِ التصرّف والكلمةِ الصحيحة التي تُخرِجُنا من حالة المتفرِّجين الهادئة. وبالتالي انطلاقًا فقط من هذا الإصغاء المليء بالاحترام والحنان، يمكننا أن نجد سبلاً للنُمُوّ، ويمكننا أن نوقِظ الرغبةِ في المَثَلِ المسيحي الأعلى، وأن نولّد القلقِ للإجابة بشكل كامل على محبةِ الله، والشوق إلى تطوير أفضلِ ما زرعَه الله في حياتنا”. وبالتالي ليس من قبيل الصدفة أنّ الشرّ، ولكي يدمِّر خصوبة عمل الكنيسة، يسعى إلى تقويض الروابط التي تكَوِّنُنا. لذلك فالدفاع عن روابط الكاهن بالكنيسة الخاصة، مع المؤسسة التي ينتمي إليها ومع الأسقف يجعل الحياة الكهنوتيّة جديرة بالثقة. إنَّ الطاعةُ هي الخيارُ الأساسي لكي نقبل الذين وُضِعوا أمامنا كعلامة ملموسةٍ لسِرّ الخلاص الشامل الذي هو الكنيسة. طاعةٌ يمكنها أن تكون أيضًا

مواجهة، وإصغاء، وفي بعض الأحيان توتُّر. وهذا الأمر يقتضي بالضرورة أن يصلّي الكهنة من أجل الأساقفة وأن يعرفوا كيف يعبّرون عن آرائهم باحترام وصدق. كما يتطلَّبُ أيضًا من الأساقفة تواضعًا وقدرة على الإصغاء ونَقدًا للذات، والسماحِ للآخرين بمساعدتهم. وبالتالي إن دافعنا عن هذه العلاقة، سنسير قدمًا بأمان في مسيرتنا.

ثالثًا تابع الأب الأقدس يقول القرب بين الكهنة. يُفتتح هذا القرب الثالث، وهو القرب الأخوي، بالتحديد من الشركة مع الأسقف. إنَّ يسوع يُظهِر نفسه حيث يوجد إخوة مستعدون لأن يُحِبُّوا بعضهم بعضًا: “حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، كنت بينهم”. إنَّ الأخُوّة، مثل الطاعة، لا يمكنها أن تكون فرضًا أخلاقيًا يُفرَضُ علينا من الخارج. الأخُوّة هي خيار طَوعِيّ نَسعَى به لأن تكون قديسين مع الآخرين، وليس بمعزل عنهم. يقول مثل أفريقي: “إذا كنت تريد أن تمضي بسرعة، فاذهب وحدك؛ أما إذا كنت تريد أن تذهب بعيدًا، فاذهب مع الآخرين”. قد يبدو أحيانًا أنّ الكنيسة بطيئة – وهذا صحيح

ولكي يطيب لي أن أفكِّر أنّ هذا هو بطء الذين قرَّرُوا أن يسيروا في الأخوّة. إنَّ صفات الأخُوّة هي صفات المحبّة. لقد ترك لنا القديس بولس، في رسالته الأولى إلى أهل قورنتس (الفصل ١٣) “خريطة” واضحة للمحبّة وأظهر لنا، بمعنى ما، ما يجب أن تهدف إليه الأخُوّة. أوَلًا، إلى تعلّم الصبر، الذي هو القدرة على الشعور بأنّنا مسؤولون عن الآخرين، وعلى حمل أثقالهم، والتألُّم معهم. نقيض الصبر هو اللامبالاة، والمسافة التي نبنيها بيننا وبين الآخرين لكي لا نشعر بأننا مَعنِيُّون بحياتهم. قد تبلغ مأساة الوَحدة قِمّتَها، في كثيرٍ من الكهنة، فيشعرون بأنّهم وحدَهم. ويشعرون أنّهم لا يستحقون الصبر والاعتبار، ويبدو لهم أنّ الآخرين يحكمون عليهم، بدلًا من أن يعاملونهم بالحُسنَى وباللطف. وبأنَّ الآخر غير قادر على أن يفرح للخير الذي يصيبنا في الحياة، أو أنا أيضًا غير قادر على ذلك عندما أرى الخير في حياة الآخرين. هذا العجز هو الحسد، الذي يعذِّبنا في حالات كثيرة وهو أمرٌ مُرهِق في تربية الحُبّ، وليس مجرد خطيئة نعترف بها.

أضاف الحبر الأعظم يقول لكي نشعر بأنّنا جزء من الجماعة، ومن “كوننا نحن”، لسنا بحاجة لأن نرتدي أقنعة تُعطِي عنا صورة المنتصرين. بعبارة أخرى، لسنا بحاجة إلى أن نتباهى، ولا لأن نضخِّم أنفسنا، أو أسوأ من ذلك، لسنا بحاجة إلى

ادّعاء مواقف عنيفة، والتقليل من احترام من هم بقربنا. لأنّ الكاهن، إن كان له ما يفتخر به، فهو رحمة الله؛ فهو يعرف خطيئته وشقاءه ومحدوديّته، ولكنّه اختبر أيضًا أنّه حيث كثُرَت الخطيئة، كثُرَت النعمة؛ وهذا أوّل خبرٍ سارٍّ له. إنَّ المحبّة الأخويّة لا تبحث عن مصلحتها الخاصة، ولا تترك مجالًا للغضب والاستياء، كما ولو أنّ الأخ الواقف بقربي قد جرَّدَني من شيءٍ ما. وعندما أواجه شقاء الآخر، أكون مستعدًّا لكي لا أتذكَّر دائمًا الشرَّ الذي تلقيته منه، ولكي لا أجعلُه معيارَ الحكم الوحيد، لدرجة أن أفرح بالظلم الذي يحِلُّ بالشخص الذي أساء إليّ. إنَّ المحبّة الحقيقيّة تفرح بالحق وتعتبر الاعتداء على الحقيقة وعلى كرامة الإخوة من خلال الاستغياب والافتراء والثرثرة خطيئة جسيمة. ولكن بهذا المعنى لا يمكننا أن نسمح بأن يُصار إلى الاعتقاد بأنّ المحبة الأخويّة هي يوتوبيا، أو “مكان مشتركًا” لإثارةِ مشاعرَ جميلة أو كلماتِ مجاملَة في خطابٍ مُطَمْئِن. لا. نحن نعلَم جميعًا مدى صعوبة العيش في جماعة، ومشاركة الحياةِ اليوميَّة مع الذين أرَدْنا أن نعترف بهم كإخوة. إنَّ المحبّة الأخويّة، إن لم نُرِدْ أن نجمِّلَها، ونقلِّلَ من معناها، ونُكيِّفَها بحسب الظروف، هي “النُّبوءَةُ الكبرى” التي نحن مدعوون إلى عيشها في مجتمع الإقصاء هذا. أيطيب لي أن أفكِّر في المحبة الأخويّة على أنّها قاعة ألعاب رياضيّة للرّوح، حيث نواجِهُ أنفسَنا يومًا بعد يوم، ونجد فيها مقياسَ الحرارة لحياتنا الروحيّة. إنّ نُبُوءةُ الأخوّة اليوم تبقى حيّة وتحتاج إلى من يبشِّر بها.

تحتاج إلى أشخاص، إذ يعرفون محدودياتهم والصعوباتِ القائمةَ أمامهم، يسمحون بأن تلمسهم وتسائلهم وتحركهم كلمات الرّبّ: “بهذا سيعرف الجميع أنّكم تلاميذي: إن أحببتم بعضكم بعضًا”.

أضاف الأب الأقدس يقول إنَّ المحبّة الأخويّة للكهنة لا تبقى منغلقة في مجموعة صغيرة، بل تُترجم إلى محبّة راعوية شاملة، تدفع إلى عيشها بشكل ملموس في الرسالة. يمكننا أن نقول إنّنا نُحِبّ إذا تعلَّمْنا أن نترجمها بالأسلوب الذي وصفَه القديس بولس. وحده الذي يريدُ أن يُحِبّ يكون في أمان. إنَّ الذين يعيشون متزامنة قايين، مُقتنعين أنّهم لن يقدروا أن يُحِبُّوا لأنّهم لم يجدوا الحُبّ، ولا الاعتبارَ ولا التقديرَ اللازم، سيعيشون في النهاية دائمًا مثل المشرَّدين، دون أن يشعروا أبدًا أنّهم في بيتهم، ولهذا السبب فهم أكثر عُرضَةً للشرّ: لأن يُسيئوا إلى أنفسهم وإلى غيرهم. وأذهب إلى أبعد من ذلك، وأقول: حيث يعيش الكهنة الأخُوّة الكهنوتيّة، وتكون بينهم روابط صداقة حقيقيّة، تكون هناك أيضًا إمكانيّة أن يعيشوا خيار العفّة بمزيد من الصفاء. إنَّ العفة هي عطية تحافظ عليها الكنيسة اللاتينية، لكنّها عطية تتطلب، لكي نعيشها كقداسة، علاقات سليمة وعلاقات احترام حقيقي وخير حقيقي تجد جذورها في المسيح. بدون أصدقاء وبدون صلاة، يمكن للعفّة أن تصبح عبئًا لا يُطاق وشهادة معاكسة لجمال الكهنوت.

رابعًا تابع البابا فرنسيس يقول القرب من الناس. لقد شدَّدْتُ مرارًا عديدة على أنّ العلاقة مع شعب الله المقدّس ليسَت واجبًا علينا بل نعمة. إنَّ محبّة الناس هي قوّة روحيّة تُعزز اللقاء الكامل مع الله. لهذا فإنّ مكان كلّ كاهن هو في وسط الشعب وفي علاقة قرب مع الشعب. كذلك سلّطت الضوء في الإرشاد الرسولي “فرح الإنجيل” على أنّه “لكي نكونَ مبشِّرين حقيقيّين علينا أن نطوِّر فينا الحماس الروحي بالبقاء قريبين من حياة الناس، إلى أن نكتشف أنّ هذا القرب قد أصبح لنا مصدر فرح أسمى. إنَّ الرسالة هي شغف بيسوع، وهي في الوقت عينه شغف بشعبه. عندما نتوقف أمام يسوع المصلوب، نعترف بمحبته كلّها التي تمنحنا الكرامة وتعضدنا، ولكن في تلك اللحظة عينها، إن لم نكن عميانًا، نبدَأُ في فهم أن نظرة يسوع هذه تتَّسِعٌ وتتوجَّه مفعمة بالمحبة لشعبه بأكمله. وهكذا نكتشف أنّه يريد أن يستخدِمَنا ليقترب أكثر من شعبه المحبوب. فهو يأخذُنا من الشعب ويُرسلُنا إليه، لكي لا تُفهم هوِّيَّتُنا دون هذا الانتماء إلى الشعب. وبالتالي أنا متأكِّد أنّه لكي نفهم مجدّدًا هوية الكهنوت، من الأهمية بمكان أن نعيش اليوم في علاقة وثيقة مع حياة الناس الواقعيّة، بقربها وبدون تهرُّب. نشعر أحيانًا بتجربة أنّنا مسيحيّين يحافظون على مسافة حذرة من جِرَاحِ الرَّبّ. لكن يسوع يريدُنا أن نَلمَس الشقاء البشري، وأن نَلمَس جسدَ الآخَرين المتألّم. وبالتالي هو ينتظر مِنّا أن نتخلَّى عن البحث عن

عقدة المأساة البشريّة، لكي نقبل حقًا أن ندخل في علاقة مع حياة الآخرين الملموسة ونكتشف قوّة الحنان. عندما نقوم بذلك، تزداد حياتا تعقيدًا بشكل مُدهش ونعيش الخبرة العميقة لكوننا شعب، وخبرةَ انتمائنا إلى شعب.

أضاف الأب الأقدس يقول القُربُ من شعبِ الله، هو القُربُ الذي وإذ يغتنى بأشكال القرب الأخرى، يَدعُونا – لا بل يطلب منا – أن نسير قدمًا بأسلوب الرّبّ، الذي هو أسلوب القرب والرحمة والحنان، لأنّه قادر على السير معنا لا كقاضٍ وإنما كالسامرِيِّ الصالح، الذي يرى جراحَ شعبه، والألمَ الذي يعيشُه بصمت، وإنكارَ الذات وتضحياتِ الكثير من الآباء والأمهات لكي يعيلوا عائلاتهم، ويرى أيضًا عواقبَ العنف والفساد واللامبالاة، التي تحاول عند مروره أن تُسكِتَ كلَّ رجاء. قرب يسمح بدهن الجراح وإعلان سنة نعمة للرّب. من المهم أن نتذكّر أنّ شعب الله يرجو أن يجد رعاة يسيرون على نمط يسوع – وليس “رجال دين” أو “محترفين في الأمور المقدسة” -؛ رعاة قادرون على منح الشفقة والفرص؛ رجال شجعان قادرين على أن يقفوا أمام الجريح ويمدّوا يدِهم إليه؛ رجالًا تأَمُليِّين، قريبين من شعبهم، وقادرين على أن يعلنوا لجراحِ العالم قوَّةَ القيامة الشافية. إنَّ إحدى ميزات مجتمعنا الحاسمة هي “شبكات التواصل”، التي تُكثر الشعور بالتيتُّم. نحن مرتبطون بكلّ شيء وبالجميع، ولكننا نفتقر إلى خبرة الانتماء، الذي هي أكثر من مجرد اتصال. مع قُربِ

الراعي، يمكننا أن ندعو الجماعة ونعزّز نُمُوِّ حسِّ الانتماء؛ نحن ننتمي إلى شعبِ الله المقدس والأمين، المدعُوّ ليكون علامةَ لحلول ملكوت الله في حاضر التاريخ. لكن إن ضلَّ الراعي، وابتعد، ستتشتَّت الخراف أيضًا وتصبح فريسة للذئاب.

تابع الحبر الأعظم يقول هذا الانتماء، بدوره، سيوفِّرُ التِرياقَ ضد تَشوِيه الدعوة الذي يولد تحديدًا من نسياننا أننا ندين بحياتنا الكهنوتيّة للآخرين – للرب والأشخاص الذين أوكلهم إلينا -. يكمن هذا النسيان في أساس الإكليروسيّة وعواقبها. الإكليروسيّة هي شذوذ لأنّها تقوم على أشكال الابتعاد. عندما أفكِّر في الإكليروسيّة، أفكِّرُ أيضًا في محاولةُ إضفاءِ طابعَ الإكليروسيّة نفسِه على العلمانيّين: أي تكوينُ نُخبةٍ صغيرةٍ حولَ الكاهن، ينتهي بها الأمر أيضًا إلى تشويه رسالة الكهنوت الأساسية. لنتذكّر أنّ الرسالة في وسط الشعب ليست جزءًا من حياتي، أو زينةً يمكنني أن أنزِعَها عنّي، أو مُلحَق، أو لحظَة من لحَظَات وجودي. بل هي شيء لا يمكنُني أن أستأصله من كياني إن لم أرِدْ أن أُدمِّر نفسي. أنا رسالة على هذه الأرض، ولهذا أنا في هذا العالم. يجب أن نعترف بأنّنا مَوْسُومُون بنار بهذه الرسالة، التي هي الإنارة، والبركة، ومنحُ الحياة، والتخفيف من الآلام، والشفاء، والتحرير. يطيب لي أن أربِطَ بين هذا القرب من شعب الله والقربِ من الله، لأنّ صلاة الراعي تتغذّى وتتجسَّد في قلب شعب الله. لأنّه عندما يصلّي، يحمل الراعي علاماتِ جِراحِ شعبِه وأفراحِه، ويقدِّمُها

بصمت إلى الله، لكي يمسَحَها بعطيّة الروح القدس. إنّه رجاء الراعي الذي يثق بالرّبّ ويصارع لكي يبارك الله شعبه.

أضاف الأب الأقدس يقول باتباع تعليم القديس أغناطيوس بأنَّ “المعرفة الكثيرة لا تُشبِعُ النفسَ وتُرضِيها، وإنما الإحساسُ بالأمور وتذَوُّقُها في الداخل”. من الجيد أن يسأل الأساقفة والكهنة أنفسهم: “كيف هي أساليب قربي؟” كيف أعيش هذه الأبعاد الأربعة التي تكوِّنُ كياني الكهنوتي وتَسمَحُ لي بإدارةِ التوتُّرات والاختلالات التي نتعامل معها يوميًّا. تُشكّل أبعاد القرب هذه مدرسةٌ جيِّدة “لكي نلعب في مَيدانٍ مكشوف”، حيث يُدعى الكاهن إلى العمل، بلا خوف، وبدون قساوة، وبدون أن يقلّل من الرسالة ويُفقرها. إنَّ القلب الكهنوتي يحمل طعم القرب لأنّ الرّبّ هو أوَّلُ من أراد أن يكون قريبًا. ليفتقد الرب كهنتَه في الصّلاة، والأسقفَ والإخوة الكهنةَ وشعبَه. ولينفض عنهم الرتابة ويُعَكِّر الأمورَ قليلاً، ويولِّد فيهم القلق – كما في زمن الحبِّ الأوّل -، وليحرِّكْ كلَّ قَدُراتِهم لكي تكون لشعبِنا الحياة، وتكونَ الحياةُ وافرة. إنَّ أساليب قرب الرب ليست مهمّة إضافية: بل هي عطية يقدِّمُها لنا لكي نحافظ على دعوة حيّة وخصبة.

ولذلك خلص البابا فرنسيس إلى القول أمام تجربة الانغلاق على أنفسنا في خطابات ومناقشات لا تنتهي حول لاهوت الكهنوت أو نظرِيَّاتٍ حول كيف ينبغي للأمور أن تكون، ينظُرُ الرّبُّ إلينا بحنانٍ ورحمة ويقدِّمُ للكهنة الإحداثيات التي يمكنهم من خلالها أن يتعرّفوا على حماسهم من أجل الرسالة ويحافظوا عليه حيًّا: القرب، القرب من الله، ومن الأسقف، ومن الإخوة الكهنة، ومن الشعب الموكل إليهم. قربٌ بحسب أسلوب الله، القريبِ بالرحمة والحنان.

Comments are closed.