العذراء مريم في فكر  شاعرها مار افرام صلاة وحياة بقلم الكاردينال لويس روفائيل ساكو

 
أبصر أفرام النور في مدينة نصيبين نحو سنة 306 من والدين مسيحيين، وتتلمذ على يد  يعقوب أسقف المدينة الذي رسمه شماساً إنجيلياً، وعهد إليه التعليم الديني في مدرسة نصيبين، 

ومن هنا أتاه لقب  الشارح والمربي.

عندما غزا شابور الثاني مدينة نصيبين عام 363 وسقطت في يده، غادرها أفرام مع جمع غفير إلى الرها القريبة، والتي كانت تحت سيطرة الرومان، ونقل إليها مدرسته اللاهوتية.
عندما حلت المجاعة بأهالي الرها عام 372-373 إنبرى أفرام  يدير عملية جمع المعونات لإسعاف المعوزين.. ثم ضرب المنطقة  وباء الطاعون وتمرض أفرام ومات في 9 حزيران 373.  وقد أعلنه البابا بندكتس الخامس عشر في 5/10/1920 ملفان الكنيسة الجامعة 1.
ترك لنا أفرام مؤلفات عديدة-  يقال إنه الف ثلاثة ملايين بيت شعر- شبهت ببحر كبير يعسر البلوغ إلى حافاته (القديس هيرونيمس، كتاب الرجال المشاهير 115).  وكثير من هذه التراتيل الشجية هي صلوات مفعمة بالإيمان والرجاء  لا يزال مستعملاً في  ليتورجيا الكنائس الناطقة بالسريانية.
مريمياته 
لا نجد عند مارافرام لاهوتاً مريميًّا منهجيًّا متبلوراً كما هو عند الآباء اليونان واللاتين، وإنما  اشعاراً ليتورجيّة ورعويّة(صلاة وحياة) وبلغة بسيطة. يستند افرام   في قصائده  الى الكتاب المقدس، لكي يثبِّت المؤمنين الذين لم يكونوا يعرفون القراءة والكتابة على الإيمان.
لمريم مكانة متميزة  عند مار افرام. فهو يتكلم  عن أهميّة دورها  في  تاريخ الخلاص انطلاقاً من دعوتِها ومشاركتِها  رسالة ابنها، لذا لقبت بأم المخلص. سرُّها  مرتبط بسرّ المسيح، وافضالُها كثيرة على المؤمنين. تقدم المفردات التي يستعملها تراكماً  من العبارات لرسم صورة مريم، واظهار دورها.  وقد جعل ألقابها قاعدة لاهوتيّة وروحيّة لقصائده. 
ان  الاناشيد التي خصّ افرام  بها مريم  كثيرة.  يعبر فيها عن تعلقه واكرامه  واحترامه العميق لها،  من خلال مدحها وتعظيمها  وطلب شفاعتها.
 يقف افرام أمامها باندهاش عظيم ܬܗܪܐ ܪܒܐوإعجاب ܕܘܡܪܐ وحب ܚܘܒܐ. ” قد نادت بي البتول لأُغنّي باعجاب قصتَها، فهبني منك الدهشة يا ابن الله..، لان الحبّ يدفعني لاُخبر” ( النشيد الاول 1 والنشيد الرابع عشر 4). هذا  الإحساس لا يحصل الا بالعين الطاهرة “العين المستنيرة 2“،  ” وحدَها العينُ الطاهرة ترى صورة الحقيقة” ( اناشيد الإيمان 67/8). 
كتب أفرام قصائد ܬܫܒܘܚܝܬܐومداريش ܡܕܪ̈ܫܐ عديدة عن مريم،  لذلك لقب بشاعر العذراء، وكنارة الروح القدس.هذه القصائد  المتنوعة كانت ترتلها جوقة الصبايا و العذارى والأرامل  التي ألفها  في الرُّها للتأثير على حياة  المؤمنين. 
يتعامل افرام بحرية كبيرة مع الأوزان الشعرية، وقد ابتكر الوزن السُباعي المسمى باسمه. علينا اكتشاف الثراء الشعر الروحي العميق الذي تتحلى به قصائده التي تعبر عن  إيمانه الراسخ بفاعلية شفاعة مريم،  مع التأكيد أنها تمارسها باسم ابنها، وسلطانه كما في  عرس قانا الجليل( يوحنا 2/ 1-12). فهو يستجيب لطلبها  بفضل  قوة الصلة القائمة بينهما.
 قصائد افرام  مفعمة بالرجاء على غرار بعض المزامير. ولها نبرة ايقاعية تشدد على اهمية ما يصفه.  وعموماً ينهي القصيدة بلازمة أو هتاف، نذكر على سبيل المثال: ” المجد لمن اختار مريم ورفع وعظم تذكارها”( النشيد الحادي عشر، اللازمة). كذلك يلجأ افرام إلى أسلوب الرموز والصور لكشف المعاني الروحية العميقة واقناع المتلقي وشده الى عيشها.
1-  مقارنة مريم  بحواء
افرام هو أول آباء كنيسة المشرق من يذكر اسم والدّي مريم: يواكيم وحنة، ربما لأن هذا التقليد كان متداولا شفهيًّا في زمانه، بينما هي   في القرآن  سورة مريم 28 اخت هارون، ابنة عمران وهذه مفارقة تاريخية.
يقيم افرام مقارنة متوازية بين حواء ومريم التي يسميها حواء الجديدة. حواء فقدت الحياة باعلان انفصالها عن الله، فجلبت الموت.  ومريم ابنتها، حواء الجديدة، أعادت  إلى الإنسان صفوته  الأولى  بفضل طاعتها المطلقة: ” انا خادمة الرب ليكن لي كما قلت”( لوقا 1/3). ويرسم افرام حالة السيدتين: حواء، عصيان، خطيئة، قصاص، موت. مريم ، طاعة، مكافأة، نعمة، حياة .  إنه أسلوب تعليمي يُظهر تناقض الحالتين، ويدعو المؤمنين  إلى نبذ النموذج الأول واتباع النموذج الثاني لكي  يستعيدوا” ذخيرة البنين”، ويحصلوا  على الفرح والسعادة.
” مريم قد أطاعت وولدته، تحتضنه وتغني له، تقّبله وهو يفرح برؤيتها” ( النشيد العاشر 4)، ” ساذجتان بسيطتان حواء ومريم وضعتا بالمقارنة الواحدة علّة موتنا، والأخرى سبب حياتنا”  (الكنيسة 35/1 ، البتولية 23/9)، ” حواء أذنبت، ومريم أوفت، فأدت الابنة دين أمها، وبها مزق الصك الذي صار في وجه كل الاجيال ” (بيك، سوغيتا 1/26). “بعينها رأت حواء جمال الشجرة، فارتسمت في مخيلتها مشورة الغدار، وبالتالي كانت الندامة” (الكنيسة 35/17)، “جلي ان مريم هي أرض النور، التي بسببها استنار العالم، مع ساكنيه، الذي  اظلم بيد حواء سبب كل الشرور. وهما تشبهان في سرّهما جسماً: عين  واحدة عمياء ومظلمة، وعين أخرى صافية ونيّرة، تنير الجميع.. عين مريم منيرة” ( الكنيسة 37/3-5).  
“إليه تطلعت حواء لأن عري النساء قد عظم، وهو وحده قادر أن يلبسهن حلّة المجد الذي خسرته ” ( اناشيد الميلاد 1/43). ” فلتسمعني الان، وتأتِ اليّ حوّاء أمُنا القديمة، ليرتفع رأسُها الذي انخفض بسبب عريّها في الجنة”( النشيد التاسع عشر19). و”النساء يشكرن مريم أمهن على المجد المعطى لهن بواسطتها ” (اناشيد الميلاد 22/23). انه منظور اسكاتالوجي رائع يشحن الرجاء. يقول افرام:” يا ابن العلي الذي اتى وحلّ فيّ فصرتُ أمّه، وكما ولدتُه ولادة أخرى، ولدني هو ولادة ثانية. لباس امه، جسده لبس، ولبست هي مجده” (الميلاد 16/11).

مريم دائمة البتولية

في نظر أفرام  الحبل بيسوع عجائبي والولادة عجائبية: ” من ذاك الحشا البتولي، من دون زرع أو زواج، الأم التي ولدت بأعجوبة، ابن الله الذي ظهر” ( النشيد الثالث 1). و” عجيب الحبل بك[يا يسوع] وعجيب مولدُك، وعجيب أنت كلك، يا عجيباً لا يستقصى” ( النشيد العاشر1).
 مريم عذراء قبل الولادة واثناءها وما بعدها: ” كانت مخطوبة بحسب الطبيعة قبل مجيئك، وحملت بخلاف الطبيعة بمجيئك أيها القدوس، ومكثت عذراء إذ ولدتك بالقداسة (الميلاد 11/3). مريم صورة براقة للبتولية: ” حبلت من دون زرع، وولدت من دون رجل، وأثمرت من دون زواج، وصارت للعالم اعجوبةً، إذ ولدت العجيب” ( النشيد الخامس 3). 
يحتار  افرام كيف يدعوها : ” أمك يارب لا يعرف المرءُ كيف يدعوها، بتولاً ؟ ها هوذا إبنُها حاضر.  متزوجة ؟ لم يمسسها رجل.  وإنْ كانت أمك لا تدرك، فأنت من يقدر أن يدركك ؟ ” ( اناشيد الميلاد 11/1)، و” عجيب هو[ أمر مريم]  من يقدر على شرح كيف ولدت البتول، وسمات البتولية عليها؟.. وماتت وسمات البتولية لم تتغيّر” (النشيد الثاني15).
 ” الحشا حملك من دون زواج، ومن دون زرع البطن ولدك ” ( اناشيد الميلاد 15/6).  تقول مريم للمجوس:” كوني عذراء أنجبتُ ابناً هو ابن الله، اذهبوا وبشروا به ” (بيك، سوغيثا 4/46). هذه إشارة واضحة إلى أصل المسيح الإلهي وإلى بقاء مريم بتولاً.   في كل الأحوال يؤكد افرام  أن المسيح في الرحم حبل به،  ومنه ولد (  اناشيد الميلاد 1/15،2/7)،  وأنه “الولد الوحيد الذي أنجبته مريم،  ولم يكن لها أن تنجب آخرين كونها هيكل الروح القدس” (دياتسرون 2/6،5/7).  ” وهبت لنا مريم الخبز الحي( المسيح في الافخارستيا) بدل خبز التعب الذي وهبته حواء” (أناشيد الفطير 6/7).
 ينفرد أفرام بجعل الحبل بيسوع قد حصل عن طريق السمع- الاذن، لربما لعلاقة بالكلمة – بالسمع conceptio  per aurem: ” بأذنها شعرت مريم بالخفي الذي جاءها مع صوت الملاك، وحلَّت في أحشائها القوة التي أتت إلى البشر.  فتسأل الموت والشيطان ما عسى أن يكون شأنه ؟ ” (الكنيسة35/18) ،  و” مريم في الناصرة الأرض العطشى حبلت بالسيد عن طريق السمع ” (البتولية 23/5). و” كما من حضن صغير/ من حضن الأذن، دخل الموت، وانتشر، كذلك بواسطة أذن جديدة، أذن مريم، دخلت الحياة وانتشرت” (  الكنيسة 49/7). 

قداسة مريم

يقول افرام: ” أنت وحدك وامك ابهى من كل جمال، اذ لا توجد بك وصمة ܡܘܡܐ يا سيد، ولا لطخة في أمك..  ” (ترانيم نصيبينية 27/7-8).”مقدسٌ جسدُها، بهيّةٌ نفسُها، طاهرٌ فكرُها، وذكاؤها صافٍ جداً، وكاملة بحواسها جداً، عفيفةٌ، مهذبةٌ، طاهرةٌ، عالمةٌ، ومملوءةٌ جمالا” ( النشيد الاول4). و” الطوبى لها، ففيها قد ازدادت الطوبى” ( النشيد الثامن4). وتتكرر الطوبى في النشيد التاسع بإسهاب.
ركز أفرام على  ان العذراء الممتلئة نعمة، هي” ام الخليقة البشرية” و يصفها  بـــ ” الارض الجديدة”( اناشيد الفردوس 5/13، ودياتسرون4/15)، ” لقد قلب الانظمة حشا أمك” ( الميلاد 11/ 7).

مريم شريكة الخلاص

يقول أفرام: ” لقد أعطت مريم الثمرةُ الحلوةُ لبني البشر بدل الثمرة المرّة التي قطفتها حواء من الشجرة، ها كلُ الخليقة تتنعم ” ( النشيد الأول 10)
ويتسأل: ” من أعطى المعوزة أن تحبل وتلد واحداً كثُراً ” (اناشيد الميلاد 5/19). أي أنها ولدتنا روحيًّا، نحن أخوته الكثيرين.   ويؤكد قائلا: ” بمريم صار الرجاءُ لكل جنس النساء” ( النشيد الثاني 10). و يشدد انها شريكة الخلاص” لقد ولدت الحياة للعالم” ( النشيد الثامن عشر1). و ” لقد أشرقت الرحمه على ابنة داود لتكون أما لذاك الذي أعطى الحياة لآدم والكون” ( النشيد السابع 17). جلبت مريم الحياة للبشر، واتاحت لهم إمكانية  المشاركة  في الحياة الالهية بواسطة ابنها  بكر البشرية الجديدة، ”  ابن مريم في شخصه، قد حمل الام الخليقة وأحياها”( النشيد الثامن عشر 29). وأخيرا تقول مريم: ” لانك ابني أغني لك، ولاني صرتُ أمَّك اني أمجدك. يا ابناً ولدته هو أقدم منيّ. يا سيّدي الذي حملته وهو الآن يحملني”  النشيد السادس 19).

مريم أم الكنيسة

بما ان الكنيسة هي جسد المسيح السري، فمريم تضحي بالتالي أم الكنيسة ( كما جاء في الانجيل” هذه أمك” ( يوحنا 19/27). يقول افرام:”  لقد استبدل يشوع بن نون بيوحنا الذي كان بتولاً،  وأوكل اليه مريم، كنيسته كما اوكل موسى قطيعَه الى يشوع” ( اناشيد نصيبين 36/9) ، ”  لقد أصبحت الكنيسة والابن في داخلها، صورة عن الغمامة التي تحملها، ورمزاً للسماوات حيث اشرق بهاؤها الساطع” (( اناشيد الايمان 81/ 4). هذه الأمومة لا تنحصر في زمن معين، انما تتخطى الازمنة.. ويرى افرام   ان الفردوس يرمز الى  الكنيسة المدعوة الى الاصغاء الى كلمة الله وحفظها ونقلها بامانة. والامانة تعبر عن الثقة التامة بالله وبالمسيح” البار بالإيمان يحيا” (رومية 1/17)،  ” من حلّ في حضن أمه، حلّت البرايا كلها في حضنه” ( الميلاد 4/154)، ” صارت الكنيسة والابن في داخلها شبه غمام. حملته، ورمزُ سماء الشرق  منها كان جميلا” ( الايمان 8/4).

. القابها

 عندما يتكلم  افرام  عن مريم  يبدو واقفاً في صلاة التماس امام: والدة المخلص،  البتول،  الطوباوية، القديسة، أم المسيح ،العروس…
 افرام لا يستعمل عبارة” ام الله Theotokos   لان العبارة لم تكن متداولة  في زمانه، لكن المضمون موجودفي قصائده: “انت هو الذي أتى وسوف يأتي بالمجد، هللويا، أيها المولود الاله.. ابن الله أنت يا ابن مريم” (النشيد العاشر 6و8 و11).  ” من دون لون تشبه أباك، بالقوة والجوهر. وبالطبيعة والسلطان، قد شابهت  والدتك مريم، اذ منها صرت شبيه البشرية” ( النشيد العاشر 13). ” الذي هو الله ظهر انساناً” (النشيد العشرون20).
 افرام يستعمل  صوراً  كتابية من العهد القديم ويربطها بالعد الجديد ليصف مريم:  حواء الجديدة، عليقة موسى، شجرة جبل موريا، جنة عدن الجديدة، شجرة الحياة 4، تابوت العهد، صخرة حوريب، سلم يعقوب، مركبة حزقيال،  الكرمة، الباب الملوكي 5.. الخ. هذه الألقاب يعود اليه ويكررها في اناشيده!
ان  الاناشيد التي خصّ افرام  بها مريم  كثيرة.  يعبر فيها عن تعلقه واكرامه  واحترامه العميق لها،  من خلال مدحها وتعظيمها  وطلب شفاعتها.. لذلك عدّ بحق شاعرها . 

رجائي  ان يظهر  هذا التراث المشرقي الأصيل والمتنوع في ليتورجيتنا ولاهوتنا وروحانيتنا بلغة جديدة  حتى يقدر ان يخاطب المؤمنين ويشدهم الى الله والمسيح والكنيسة فيبقى اباء كنيستنا المشرقية في ذاكرتهم عبر الاجيال.

Comments are closed.