بمناسبة اسبوع الصلاة من أجل وحدة المسيحيين (18-25 كانون الثاني)
الكاردينال لويس روفائيل ساكو يكتب
الكنائسُ الشرقيّة بحاجةٍ الى نسمةٍ من الهواءِ النقيّ
الكنائسُ الشرقيّة متأثرة بالمجتمع الذي تعيش فيه، خصوصاً ان أغلبية سكان بلدان الشرق الأوسط هم مسلمون محافظون متمسكون بفكرة أن الممارسات والتشريعات الدينية صالحة لكلّ زمان ومكان، وليس جوهر (رسالة) الدين فقط، ويرفضون الحداثة في المجال الديني بالرغم من وجود دعوات لعدد من التنويريين المسلمين الى مراجعة نقدية للخطاب الديني بسبب التحول الثقافي والاجتماعي.
عموماً يشعر المسيحي الشرقي انه مُقَيَّدٌ بحبال عديدة: صعوبة البحث عن المعنى في النصوص الدينية والتقاليد، والخوف من التحديث وما يعقبها من إنتقادات، وتعدد الكنائس والتنافس فيما بينها، وتداخل الجانب القومي بالجانب الكنسي، واللغة.
الحقيقة والتجديد هما من صُلب طبيعة الكنيسة. قال يسوع “فالرِّيحُ تَهُبُّ حَيثُ تَشاء” (يوحنا 3/ 8) و “وَلَيْسَ أَحَدٌ يَجْعَلُ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاق عَتِيقَةٍ” (مرقس 2/ 22)، أي أن لكل زمن رؤية جديدة، وفكراً جديداً ومصطلحاتٍ جديدةً، وأسلوباً جديداً، خصوصاً في الجانبين الروحي والاجتماعي.
في الأيام الماضية بمناسبة عيدَي الميلاد المجيد والسنة الجديدة، قرأتُ رسائل بعض رجال الدين المسيحيين، وسمعتُ عِظات، وشاهدتُ مقابلات تلفزيونية لهم، فوجدتُ الأفكار المطروحة قديمة لا يتواصل ما قالوه مع الواقع الراهن. بصراحة، معظم ما قالوه كلامٌ معتادٌ يفتقر الى الدقة العلمية، ولا ينسجم مع متطلبات الزمن الذي يعيشه الناس، لذا لا يُحرّك مشاعر المتَلقين، ولا يشحن رجاءَهم، ولا يمنحهم الشعور بالاطمئنان والانتعاش.
هذه المفاهيم القديمة تؤدي بالتالي الى اعتكاف الشباب عن المجيء الى الكنيسة. واذا استمر الوضع على ما هو عليه الآن فإن الأجيال القادمة ستكون بلا إيمان.
الإيمان والعقل
عندما يعِظ رجل الدين يجب أن يخاطب قلوب الناس صدقاً وبشفافية، بعيداً عن الفرضيات غير المثبتة والميثولوجيا، وان يترجم جمال الإيمان بمعقولية، وهنا أشير الى دعوة البابا الراحل بندكتس السادس عشر عن أهمية العلاقة بين الإيمان والعقل، وان تنعكس صلاة رجل الدين على العلاقات العامة، ولا يخاف من مواجهة التحديات. الشجاعة في قول الحقيقة هي قوتُه، فالمطلوب المزيد من البحث والتحليل والوعي لتستعيد الكنيسة دورها النبوي في هذا الشرق المضطرب. من المؤسف ان الكنائس الشرقية الكاثوليكية لم تستفد كثيراً من أعمال المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (1962-1965) ولا من السينودس من أجل الشرق سنة 2010.
لا بد أن تستجيب الكنائس للمتغيرات الثقافية والاجتماعية والضغوط السياسية والاقتصادية تماماً كما فعل المسيح: “أتيت لتكون لهم الحياة وبوفرة” (يوحنا 10/ 10) و “رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لِأَنَّهُ مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراء ،وأَرسَلَني لأُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهم، ولِلعُميانِ عَودَةَ البصَرِ إِلَيهِم، وأُفَرِّجَ عنِ الـمَظلومين، وأُعلِنَ سَنَةَ رِضاً عِندَ الرَّبّ” (لوقا 4/ 18-19).
من هذا المنطق يتعين على رجل الدين ان يتكلم بصدق وشجاعة عن هموم الناس وتطلعاتهم في توفير حقوق مدنية تساوي بين الجميع، وتصون حريتهم وحياتهم الكريمة، ويسلط عليها نور الإنجيل، ولا يتحدث فقط عن مواضيع لاهوتية وأخلاقية جاهزة لكلِّ مناسبة من دون ان يأخذ بنظر الاعتبار أصالة الإيمان وبهاء الإنجيل، ورسالة الكنيسة، وثقافة اليوم.
خطر الانغلاق على الماضي يُغيِّب دور الكنيسة. خبرة الأجداد عبرٌ وليست قيوداً! ينبغي الحفاظ على الشعلة وعلى حضور الكنيسة المؤثر في قلب العالم من خلال دفاعها عن القيم الأساسية كالحق والعدل والحرية، وترجمة إرثها الى لغة يفهمها العالم المعاصر. لا إصلاح حقيقي من دون تنشئة رجال الاكليروس، تنشئة كهنوتية شاملة، بثقافة دينية راسخة، وعامة سليمة، تمكّنهم من القيام برسالتهم الراعوية على أحسن وجه، لاسيما في هذه الأوقات الصعبة والحرجة. كتب البابا فرنسيس في فرح الإنجيل Evangelii gaudium “يجب على الرعاة أن يسبقوا ويتبعوا القطيع، ويترأسوه ويرافقوه. يجب أن يرشدوا شعبهم، ولكن أيضاً ان يشمّوا رائحة القطيع “.
مسؤولية الوحدة
ان نزعة التعصب قويّة عند البعض، فلا يرون وجهاً آخر للكنيسة غير القوميّة. وهذا تشويه لطبيعة الكنيسة ورسالتها الجامعة: “اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجمَعَ، وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا” (مرقس 16/ 15).
يجب إعطاء الأولوية لموضوع الوحدة، لا سيما وقد غدَونا أقلية في أوطاننا. قوّتُنا في وحدتنا المتآلفة التي هي وحدها الضمان لبقائنا وتواصلنا في حمل رسالتنا. الوحدة لا تعني إلغاء خصوصية الكنائس في إرثها الروحي والثقافي واللاهوتي والليتورجي والموسيقي والتنظيمي! الوحدة بعيدةٌ عن عقلية التخوين واتهام الآخر بالانشقاق، بل الوحدة هي قبول الاختلافات واحترامها بالتواضع المتبادل واللقاء الاخوي، والحوار المسؤول، والتفاهم وتبادل الخبرات، والعمل معاً انطلاقاً من الانجيل، وبنضج إيماني وروحي في خدمة الانسان، فتُضيء الكنائس مجتمعاتنا المتنوعة بصلاتها وشهادة المحبة والتزامها. بالمحبة يُصبحُ كلُّ شيء جميلاَ.
الشهادة فيما بيننا تُبنى ايمانيّاً على علاقة الثالوث، الواحد في الجوهر والثالوث (المتنوع) في تجليّاته. هذه العلاقة هي أساس إيماننا بالله المحبة، وبالجار الأخ.
سؤالي للكنائس المتنوعة هو: هل البيانات الكريستولوجية الموقعة بين معظم رؤساء الكنائس الشرقية كانت عن قناعة أم كانت مجاملةً وحِبراً على الورق، لذا لم تتقدم العلاقات الى الأمام! في الانقسام لا مستقبل لنا، في الوحدة والسير معاً ضمان بقائنا. بإمكان الكنائس المختلفة إعتماد اسلوب السينودس a synodal style للتعاون والعمل، خصوصاً أن ما يجمعنا هو إيماننا وأرضنا ومستقبلنا.
“الجدل البيزنطي” مثلٌ يضرب عن اللاواقعية
كانت القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية محاصَرة من قبل الجيوش الإسلامية، في وقت كان اللاهوتيون البيزنطيون يتجادلون حول جنس الملائكة! إنها مفارقة مميتة! وكانت كنيسة “آيا صوفيا” رمزاً فنياً وكنسياً للحضارة البيزنطية منذ 916 عاماً، لذلك أول عمل قام به المحاربون المسلمون في المدينة عام 1453 بعد الميلاد، هو تحويلها إلى مسجد.
على المسيحيين ان يكونوا متيَقظين ومنتبهين لأننا نعيش لحظة تاريخية في هذا الشرق الذي كناّ نُشكّل الغالبية فيه، غدونا حالياً أقلية مهدَّدة بسبب حجم الصراعات وتنوّعها و التمييز والعنف واستمرار الهجرة.
على رؤساء الكنائس التغلب على الخلافات غير الجوهرية والتعصب والخوف للدفاع عن الوجود المسيحي في الشرق، بمواقف موحدة وخطة مدروسة ليُشجعوا المسيحيين على البقاء عِبر تربيتهم على الالتزام الإيماني الشخصي، والمشاركة الاجتماعية والسياسية في تحقيق المواطنة الحقيقية والعدالة الاجتماعية والمساواة. آنذاك تغدو الأقليّة المسيحيّة مبدعة، والا سوف تختفي من هذه البلدان مع الزمن.
لنتصالح ونتكاتف لكي لا تفرغ أرض اجدادِنا من سكانها الاصليين، أرض التاريخ، وآلاف الشهداء. كنائسنا تحمل في جسدها الآم المسيح، لنسعَ من أجل نهضتها كما نهض هو، ومن أجل نهضة بلداننا أيضاً.
Comments are closed.