البابا يختتم زيارته إلى جنوب السودان
نورسات الأردن/اختتم البابا فرنسيس ، بابا روما، رحلة السلام إلى جنوب السودان بالاحتفال بقداس في الهواء الطلق حضره عشرات الآلاف في جوبا.وتاليا الكلمة التي ألقاها هناك:
ايها الإخوة والأخوات الأعزّاء، مساء الخير!
أشكركم على صلواتكم وشهاداتكم وأناشيدكم! فكّرت فيكم كثيرًا، وحملت في قلبي الرّغبة في أن ألتقي بكم، وأن أنظر في عيُونِكُم، وأن أُصافحكم وأُعانقكم: أنا هنا أخيرًا، مع إخوتي الذين أشاركهم في حجّ السّلام هذا، لكي أؤكّد لكم قُربي، وكلّ مودّتي. أنا معكم، أتألّم من أجلكم ومعكم.
وجّهت إلينا، يا جوزيف، سؤالًا حاسمًا: ”لماذا نحن نتألّم في مخيّم النّازحين؟“ لماذا… لماذا الأطفال والشّباب الكثيرون مِثلُك هُم هناك، بدل أن يكونوا في المدرسة ليدرسوا أو في مكان جميل في الفضاء ليلعبوا؟ أعطيتَنَا أنت نفسك الإجابة، وقُلت إنّ ذلك ”بسبب الصّراعات الدّائرة في البلد“. وبالتّحديد بسبب الدّمار النّاجم عن العنف البشريّ، بالإضافة إلى الدّمار النّاجم عن الفيضانات، التي اضطرت الملايين من إخوتنا وأخواتنا مثلكم، بمن فيهم الكثير من الأمّهات مع أطفالهن، إلى مغادرة أراضيهم وترك قُرَاهم وبيوتهم. للأسف، في هذا البلد المعذّب، أن تكون نازحًا أو لاجئًا أصبحت خبرة اعتياديّة وجماعيّة.
لذلك، أجدّد بكلّ قوّتي وبكلّ قلبي ندائي لوقف كلّ صراع، وأن يعود الجميع بجديَّة إلى عمليّة السّلام، حتّى ينتهي العنف ويستطيع النّاس أن يعودوا ليعيشوا بكرامة. بالسّلام والاستقرار والعدل فقط، يمكن أن تبدأ أعمال التّنمية والاندماج الاجتماعيّ. لا يمكننا أن ننتظر أكثر من ذلك: إذ إنّ عددًا هائلًا من الأطفال وُلدوا في السّنوات الأخيرة، لم يعرفوا سِوى واقع مخيّمات النّازحين، ونَسَوا أجواء البيت، وفقدوا ارتباطهم بوطنهم الأصلي، وبجذورهم، وبتقاليدهم.
لا يمكن أن يكون المستقبل في مخيّمات النّازحين. نحن بحاجة، كما طلبتَ أنت، يا جونسون، أن يكون لكلّ الشّبان مثلك الإمكانيّة لأن يذهبوا إلى المدرسة، وأيضًا أن يلعبوا كرة القدم! هناك حاجة للنمُوّ في مجتمع مُنفتح، الكلّ يختلط معًا، ويُكوِّنُ شعبًا واحدًا من خلال تحدّيات الاندماج، وأن يتعلّم الجميع أيضًا اللغات المحكيّة في جميع أنحاء البلد، وليس فقط في مجموعته العرقيّة. هنا حاجة للدخول في المغامرة المدهشة في أن يَعرِفَ الكلّ، وأن يستقبل الكلّ كلّ المختلفين عنهم، لكي يكتشفوا من جديد جمال الأخوّة المُتصالحة ويختبروا المغامرة التي لا تُقدَّر بثمن، أي بناء المستقبل بحرّيّة، مستقبلنا ومستقبل الجماعة بأكملها. ونحن بحاجة، بكلّ تأكيد، لأن نتجنّب تهميش الجماعات ووضع الإنسان في معازل. ومن أجل كلّ هذه الاحتياجات، الحاجة الأولى هي إلى السّلام. وإلى مساعدة الكثيرين، ومساعدة الجميع.
لذلك، أودّ أن أشكر نائبة الممثّلة الخاصّة سارة بييسولوف نيانتي (Sara Beysolow Nyanti) لأنّها قالت لنا إنّ اليوم هو فرصة للجميع ليروا ما كان يحدث في هذا البلد منذ سنوات. هنا، في الواقع، تستمرّ أكبر أزمة لاجئين في القارّة، مع ما لا يقل عن أربعة ملايين نازح من أبناء هذه الأرض، ومع انعدام الأمن الغذائي وسوء التّغذية اللذَين أثّرا على ثُلثي السّكان. وتكلّمت أيضًا عن توقّعات لحدوث مأساة إنسانيّة يمكنها أن تتفاقم هذه السّنة. أودّ أن أشكرها، أوّلًا، لأنّها هي وآخرين كثيرين لم يبقوا واقفين لكي يدرسوا الموقف، بل عملوا. أنتِ، أيّتها السّيّدة، تجوَّلتِ في البلد، ونظرتِ في عيون الأمّهات، وشاركتهنَّ الألَم الذي يشعرنَ به بسبب حالة أبنائهنَّ، وأثَّرَ فيَّ ما أكّدتِه: أنّه على الرّغم من كلّ ما يعانونه، لم تنطفئ قطّ في وجوههنَّ الابتسامة والرّجاء.
وأنا أشاركها فيما قالته عنهنَّ: الأمّهات والنّساء هنَّ المفتاح لتغيير هذا البلد: إن أُتيحت لهن الفُرص المناسبة. بجهودهنّ واستعدادهنّ لحماية الحياة، سيكون لهنّ القدرة على تغيير وجه جنوب السّودان، وسيعطينه تنمية هادئة ومتماسكة! ولكن، أسألكم، أسأل كلّ سُكَّان هذه الأراضي: لتكن المرأة محميّة ومحترمة ومُقدّرة ومُكرّمة. من فضلكم: احموا واحترموا وقدّروا وكرّموا كلّ امرأة وطفلة وفتاة وشابّة وبالغة وأمّ وجَدَّة. من دون ذلك لن يكون مستقبل.
والآن، أيّها الإخوة والأخوات، أنظر إليكم مرّة أخرى، وإلى عيونكم المتعبة ولكن المُضيئة، التي لم تفقد الرّجاء، وإلى شفاهكم التي لم تفقد القوّة للصّلاة وللإنشاد، وأنظر إليكم أنتم، أيديكم فارغة، ولكن قلوبكم مليئة بالإيمان، وأنتم الذين تحملون في داخلكم ماضيًّا يعصره الألَم، ومع ذلك لم تتوقّفوا قط عن أن تحلموا بمستقبلٍ أفضل. نحن اليوم، في لقائنا معكم، نريد أن نعطي أجنحة لآمالكم. نحن نؤمن بذلك، ونؤمن أنّه الآن، حتّى في مخيّمات النّازحين، وحيث للأسف يجبركم الوضع في البلد أن تبقوا، يمكن أن تولد بذرة جديدة، كما تولد من الأرض الجرداء، وستؤتي ثمرها.
أودّ أن أقول لكم: أنتم البذرة لجنوب السّودان الجديد، أنتم البذرة من أجل نموٍّ خصيب ونَضِرٍ للبلد. أنتم، من كلّ المجموعات العرقيّة المختلفة، الذين عانيتم وتعانون، ولكنّكم لا تريدون أن تردّوا على الشّرّ بِشَرٍّ آخر. أنتم، الذين اخترتم منذ الآن الأخوّة والمغفرة، أنتم تزرعون غدًا أفضل. الغَدْ الذي يولد اليوم، هنا حيث أنتم، من قدرتكم على التّعاون، ونسج شبكات الشّركة ومسارات المُصالحة مع الذين يعيشون بقربكم، ويختلفون عنكم من حيث العِرْق والأصل. إخوتي وأخواتي، كونوا بذارَ رجاء، فيها نلمح بالفعل الشّجرة التي ستؤتي ثمرها في يومٍ من الأيّام، ونتمنّى أن يكون قريبًا. نَعَم، ستكونون أنتم الأشجار التي ستمتصّ تلوّث سنواتٍ من العنف وتُعيد أكسجين الأخوّة. هذا صحيح، أنتم الآن ”مزروعون“ حيث لا تريدون، ولكن، في حالة الضّيق وعدم الاستقرار هذه بالتّحديد، يمكنكم أن تمدّوا يد المساعدة إلى الذين بجانبكم وتختبروا أنّكم متجذّرون في الإنسانيّة نفسها: من هنا يجب أن تبدأوا من جديد، لتكتشفوا أنّكم أخوة وأخوات، وأبناء على الأرض لإله السّماء، أبي الجميع.
أيّها الأعزّاء، الجذور هي التي تذكّرنا أنّ النّبتة تولد من بذرة. جميلٌ أنّ النّاس هنا يهتمّون كثيرًا بجذورهم. قرأت “أنّ الجذور في هذه الأراضي لا تُنسى أبدًا”، لأنّ “الأجداد يذكّروننا من نحن وماذا يجب أن يكون طريقنا… من دونهم نحن ضائعون، وخائفون، ومن دون بوصلة. لا يوجد مستقبل من دون ماضٍ” (C. Carlassare, La capanna di Padre Carlo. Comboniano tra i Nuer, 2020, 65). ينشأ الشّباب في جنوب السّودان بحفظ روايات الأقدمين، وإن اتّسمت رواية السّنوات الأخيرة بالعنف، فمن الممكن، لا، بل من الضّروريّ أن نبدأ رواية جديدة، بدءًا منكم: رواية لقاء جديدة، حيث لا ننسى ما عانينا، بل نضع فيه نور الأخوّة، ورواية تركّز ليس فقط على مأساة الأحداث، بل على الرّغبة المتقّدة في السّلام. كونوا أنتم، أيّها الشّباب من مجموعات عرقيّة مختلفة، الصّفحات الأولى لهذه الرّواية! إن كانت الصّراعات وأعمال العنف والكراهية مزَّقَت الصّفحات الأولى من حياة هذه الجمهوريّة وأزالت عنها الذكريات الجميلة، كونوا أنتم من يعيد كتابة تاريخ السّلام! أشكركم على قوّة ثباتكم وعلى كلّ أعمالكم الصّالحة، التي تُرضي الله كثيرًا وتجعل كلّ يوم تعيشونه ثمينًا.
أودّ أيضًا أن أوجّه كلمة شكر إلى الذين يساعدونكم، غالبًا في ظروف ليست فقط صعبة، بل في حالة طوارئ. شكرًا للجماعات الكنسيّة على أعمالها التي تستحق الدّعم، وشكرًا للمرسلين والمنظّمات الإنسانيّة والدوليّة، ولا سيّما الأمم المتّحدة، على العمل الكبير الذي يقومون به. طبعًا، لا يمكن لبلد أن يعيش على المساعدات الخارجيّة، خصوصًا مثل هذه الأرض الغنيّة جدًّا بالموارد! ولكن الآن هذه المساعدات ضروريّة جدًّا. أودّ أيضًا أن أكرّم الكثيرين من العاملين في المجال الإنسانيّ الذين فقدوا حياتهم، وأحثّ على احترام الذين يساعدون، وهيكليّات المساعدة للسّكان، التي لا يمكن أن تصير أهدافًا للاعتداءات والتّخريب. إلى جانب الإغاثة الطّارئة، أعتقد أنّه من المهمّ جدًّا، في المستقبل، مرافقة السّكان على طريق التّنمية، مثلًا، بمساعدتهم لأن يتعلّموا تقنيّات مطوَّرة في الزّراعة وتربية المواشي، لتسهيل نموٍّ فيه مزيد من الاستقلال. أطلب من الجميع وأضع قلبي على يدي: لنساعد جنوب السّودان، ولا نترك سكانه وحدهم، إنّهم تألّموا كثيرًا وما زالوا يتألّمون!
في الختام، أريد أن أوجّه كلمة إلى اللاجئين الكثيرين من جنوب السّودان، الموجودين خارج البلد، وإلى الذين لا يستطيعون أن يعودوا لأنّ أراضيهم محتلّة. أنا قريب منهم، وأتمنّى أن يتمكّنوا من أن يعودوا وأن يكونوا هم صانعي مستقبل أرضهم، وأن يساهموا في تنميتها بطريقة بنَّاءة وسِلميَّة. نياكور ريبيكّا (Nyakuor Rebecca)، طلبت منّي بركة خاصّة من أجل أطفال جنوب السّودان، حتّى تستطيعوا أن تنموا كلّكم معًا في السّلام. البركة ستكون حقًّا خاصّة، لأنّني سأمنحها مع إخوتي جاستن وإيان (Justin e Iain). ومع هذه البركة، لِتَصِلْ إليكم بركة الكثيرين من الإخوة والأخوات المسيحيّين في العالم، الذين يعانقونكم ويشجّعونكم، وهم يعرفون أنّ فيكم، وفي إيمانكم، وفي قوّتكم الدّاخليّة، وفي أحلامكم بالسّلام، يُضيء جمال الإنسان كلّه.
Comments are closed.