كلمة يكتبها الأب نبيل حدّاد قراءة في مثل الأبن الشاطر

قصة مثل الابن الشاطر ليست قصة ذنوب. بل قصة الضياع. الضياع بالابتعاد. ومحور المثل فيها هو الأب وليس الأبنين. وفيه كشفُ قلبِ الله. والحقيقة الأساس فيه هي صورة قلب الآب السماوي المحبّ تجاه الخطأة غير المستحقّين.

يُظهر المثل كيف يثور الابن الأصغر متمرداً. فهو لم يكن راضياً عن رزق أبيه وقيود أبيه وتوجيهات أبيه، بل أحبّ الخطيئة واستدرجته الرغبات وسيطرت عليه المفاتن، لذلك سعى إلى ارضاء شهواته، ودفعته رغباته ليخاطر بكل شيء للحصول على ما أدانه الله. فكانت نزوته والتمرّد على أبيه.
إنها صورة الإنسان الخاطئ ضحيةِ الخطيئة، الذي تخدعه الخطيئة فتجعله يتمرّد على ضوابط محبّة الآب.
كان أمر الابن الأكبر مختلفا. ومع أنّه أحبّ البقاء في بيت أبيه. لكنّ ذلك لا يعني أنه أحبّ أباه. كان يتوهّم أنه قادرٌ بما فيه الكفاية على التعامل مع أبيه كي يحصل منه على ما يريد. كان محبّاً لنفسه كثيرًا، ولم يكترث لشيء سوى لإرضاء نفسه.
كان الكبرياءُ الذي يولّدُه غرورُه مرشدَه الوحيد.
إنها صورة أبنين ضالّين. ما كانا من العبيد ولا من الخدم بل أبناء. إنها قصتنا نحن!
وفي المقابل نرى صورةً رائعة لأبٍ محبٍّ ينتظر بصبر ولهفة عودة ابنه الضّال.
في عالمٍ بدون الله أو عالمٍ ينسى الله يكون الإنسان بعيدًا عن الله.
وحينما لا يكون الانسان في علاقة مع الله، وبغض النظر عن أية بقعة يسكن، يكون بعيداً في أرض غربة، لهذا لم يأت المثل على ذكرِ كم يبعد ذلك البلد.
في المثل سعى الابنان كلاهما إلى إرضاء الذات. “قَالَ أَصْغَرُهُمَا لأَبِيهِ: يَا أَبِي أَعْطِنِي الْقِسْمَ الَّذِي يُصِيبُنِي مِنَ الْمَالِ. فَقَسَمَ لَهُمَا مَعِيشَتَهُ. وَبَعْدَ أَيَّامٍ لَيْسَتْ بِكَثِيرَةٍ جَمَعَ الابْنُ الأَصْغَرُ كُلَّ شَيْءٍ وَسَافَرَ إِلَى بلد بعيدٍ، وَهُنَاكَ بَذَّرَ مَالَهُ بِعَيْشٍ مُسْرِفٍ. فَلَمَّا أَنْفَقَ كُلَّ شَيْءٍ، حَدَثَ جُوعٌ شَدِيدٌ فِي ذلك البلد، فأخذ في العوز. فَمَضَى وَالْتَصَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ ذلك البلد، فَأَرْسَلَهُ إِلَى حُقُولِهِ لِيَرْعَى خَنَازِيرَ. وَكَانَ يَشْتَهِي أَنْ يَمْلأَ بَطْنَهُ مِنَ الْخُرْنُوبِ الَّذِي كَانَتِ الْخَنَازِيرُ تَأْكُلُهُ، ولَمْ يُعْطِهِ أَحد. “
بعد أن تصرف مسرفا بعطايا وخيرات أبيه وبدّدها، يعود الإبن الضال فيفرح الأب.
وسط مشهد الفرح الأبوي، يظهر الابن الأكبر الذي “غَضِبَ وَرَفَضَ أَنْ يَدْخُلَ. فَخَرَجَ أَبُوهُ وَتَوَسَّلَ إِلَيْهِ . غَيْرَ أَنَّهُ رَدَّ عَلَى أَبِيهِ قَائِلاً: هَا أَنَا أَخْدِمُكَ كل هذِهِ السِّنِينَ، وَلَمْ أُخَالِفْ لَكَ أَمْراً، وَلكِنَّكَ لَمْ تُعْطِنِي وَلَوْ جَدْياً وَاحِداً لأَفْرَحَ مَعَ أَصْدِقَائِي . وَلَمَّا عَادَ ابْنُكَ هَذَا الَّذِي أَكَلَ مَالَكَ مَعَ الزّواني، ذَبَحْتَ لَهُ الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ !
في موقف سخطِ الإبن الأكبر تنكشف سنواتُ طاعته لوالده وكأنها كانت خدمة قاتمة. ولم تكن خدمة الابن المحبّ. ونرى عدم تعاطفه المطلق، لدرجة أنه أنكر أن العائدَ هو أخوه وهو يقول لأبيه” ابنك” هذا .
2 / 2
نادرًا ما يدرك هذا النوع من الناس أنه ضائع، سواء المرء نفسه أو الآخرون. مما يجعله حالة ميؤوس منها. فمع أن هذا الأبن ظلّ في البيت ولم يذهب بعيدًا إلى أرض بعيدة ولم يرعى الخنازير، كما فعل أخوه الضال، لكنه هو كان ضائعاً أيضًا.
كان في البيت حيث البيئة الصحية والنظيفة. لم يكن مبذرًا مثل أخيه المسرف. وكان عنده من الفضائل ما يستحق الاحترام. فهو لم يجلب العار على والده. واحتقر الكسل. كان مجتهدًا ومقتصدًا ولم يكن مسرفاً، ورفض التراخي الأخلاقي، لكن فاته أن يتنبّه إلى تلك الصفات العالية في حياة أبيه وموقفه. وببساطة، لم يستطع فهم صبره الوالدي ومعاناته وحزنه على غياب ابنه الأصغر عن البيت الأبوي. وبسبب غروره الأناني، تجمّد قلبه، وفقد الاحساس بالفهم والرحمة. ورأى أخاه مذنبًا سيئ السمعة. فيما رأى نفسه بارا. وبرأيه لم يكن أخوه مستحقّاً سوى العقاب والتوبيخ. أاما هو فيستحق الثناء والتكريم. لقد كان غريبًا وبعيداً تمامًا عن معاناةٍ عاشها أخوه بسبب الخطيئة. ويظهر سخطُه وهو يفقد تماما كل احساسٍ بالتعاطف مع كلّ من والده وأخيه. فأبوه يحزن لأن ابنه الأصغر موجود في البلد البعيد، ويزداد حزناً لأن ابنه الأكبر لا يحزن على غياب أخيه، بل لم يكترث على الإطلاق لذلك الغياب. وعندما يعود الأبن الضّال يفرح الأب فرحا عظيما، لكن الابن الذي بقي في بيت أبيه يرفض أن يشارك بالفرحة بلضالّ العائد. لم يكن في قلبه حبّ لا لأبيه ولا لأخيه.
نحن نعيش هذا المشهد. فحبّ الذات هو مركز حياتنا وسلوكنا. وتأخذنا أنانيتنا وغرورنا وكبرياؤنا بعيدا إلى هناك حيث الضياع، بعيدا عن قلب الآب المحبّ الرحيم وبعيداً عن بيته الأبوي.
إننا حقا نعيش كما لو أن المسيح لم يمت أبدًا أو كأننا ننسى أنه مات أو لماذا مات أو لأجل من مات.