البابا : إذا كانت نسبة ولادة الأطفال قليلة في مجتمع ما فهذا يعني أن الرجاء قليل
“إن الولادات، كما الاستقبال، لا يمكنهما أبداً أن يتعارضا لأنهما وجهان لعملة واحدة، ويكشفان لنا مدى السعادة الموجودة في مجتمع ما”
هذا ما قاله قداسة البابا فرنسيس في كلمته في مؤتمر حول أوضاع الولادات في إيطاليا.
شارك قداسة البابا فرنسيس صباح الجمعة الماضي في مؤتمر حول أوضاع الولادات في إيطاليا والذي يُعقد في ١١ و١٢ من أيار مايو في Auditorium della Conciliazione شاركت فيه رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني وللمناسبة ألقى الأب الأقدس مداخلة قال فيها أشكركم على الدعوة التي قبلتها بكل سرور هذا العام أيضًا، لأنني أعتقد أن موضوع الولادات هو موضوع محوري للجميع، ولاسيما بالنسبة لمستقبل إيطاليا وأوروبا.
إن ولادة الأبناء في الواقع، هي المؤشر الرئيسي لقياس رجاء شعب ما.
إذا ولد القليل، فهذا يعني أن الرجاء ضئيل.
وهذا الأمر ليس له تداعيات من الناحية الاقتصادية والاجتماعية فحسب، ولكنّه يقوض الثقة في المستقبل أيضًا. لقد علمت أن إيطاليا وصلت العام الماضي إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق في المواليد: ٣٩٣ ألف مولود جديد فقط. إنها حقيقة تكشف عن قلق كبير للمستقبل. اليوم، يُنظر إلى إنجاب الأبناء كمسعى يعتمد على العائلات. وهذا الأمر، للأسف، يحد من ذهنيّة الأجيال الشابة، التي تنشأ في حالة من عدم اليقين، وفي خيبة الأمل والخوف. وتعيش في مناخ اجتماعي يتحول فيه تكوين عائلة إلى جهد جبار، بدلاً من كونه قيمة مشتركة يعترف بها الجميع ويدعموها. أن نشعر بأننا وحدنا وبأننا مجبرون على الاعتماد حصريًا على قوانا هو أمر خطير: فهو يعني تآكل الحياة المشتركة ببطء والاستسلام للحياة الانفرادية، التي يتعين فيها على كل شخص أن يصنعها بنفسه. ونتيجة لذلك، وحدهم الأغنياء، بفضل مواردهم، يمكنهم أن يوفِّروا لأنفسهم حرية أكبر في اختيار الشكل الذي يعطونه لحياتهم. وهذا أمر غير عادل بالإضافة إلى كونه مهين.
تابع الأب الأقدس يقول بين حروب وأوبئة ونزوح جماعي وأزمات مناخية، ربما لم يبدو المستقبل أبدًا غير أكيد كما هو الحال في زمننا هذا. كل شيء يسير بسرعة وحتى الضمانات المكتسبة تزول بسرعة. في الواقع، إنَّ السرعة التي تحيط بنا تزيد من الهشاشة التي نحملها في داخلنا. وفي هذا السياق من عدم اليقين والهشاشة، تعاني الأجيال الشابة أكثر من أي شخص آخر من شعور بعدم الاستقرار، بحيث يبدو المستقبل وكأنه جبل من المستحيل تسلقه. صعوبة في العثور على عمل مستقر، صعوبة في الحفاظ عليه، بيوت باهظت الثمن، إيجارات مرتفعة وأجور غير كافية جميع هذه الأمور هي مشاكل حقيقية. إنها مشاكل تسائل السياسة، لأنّه وتحت نظر الجميع تصبح السوق الحرة، بدون التدابير التصحيحية التي لا غنى عنها، جامحة وتولِّد مواقف وأوجه عدم مساواة خطيرة على الدوام. وبالتالي لكي أصف السياق الذي نعيش فيه، أفكر في ثقافة ليست صديقة، إن لم تكن عدوة، للعائلة، تتمحور حول احتياجات الفرد، وحيث تتمُّ المطالبة بحقوق فردية بشكل متواصل فيما لا يتمُّ التحدث عن حقوق العائلة. وبشكل خاص، هناك اشتراطات تكاد تكون تعجيزيّة بالنسبة للنساء. والأكثر تضررا هن النساء الشابات اللواتي غالبا ما يجبرن على مفترق طرق بين العمل والأمومة، أو يسحقهن ثقل رعاية عائلاتهنَّ، لا سيما في حالات وجود مُسنّين ضعفاء وأشخاص غير مستقلين.
بالطبع، تابع الحبر الأعظم يقول، إنَّ العناية الإلهية موجودة وتشهد عليها الملايين من العائلات بحياتها وخياراتها، ولكن لا يمكن لبطولة الكثيرين أن تصبح عذرًا للجميع. وبالتالي، هناك حاجة إلى سياسات واعية. نحن بحاجة إلى تهيئة أرض خصبة لكي يزهر ربيع جديد ونترك وراءنا هذا الشتاء الديموغرافي. وبما أن الأرضية مشتركة، وكذلك المجتمع والمستقبل، فمن الضروري أن نواجه المشكلة معًا، بدون حواجز أيديولوجية ومواقف مسبقة. صحيح أنه بمساعدتكم أيضًا، تم تحقيق الكثير وأنا ممتن جدًا لذلك، ولكنه لا يزال غير كافٍ. نحن بحاجة إلى أن نغيِّر ذهنيّتنا: إنَّ العائلة ليست جزءًا من المشكلة، ولكنها جزء من حلها. لذلك أسأل نفسي: هل هناك من يعرف كيف يتطلع إلى الأمام بشجاعة لكي يراهن على العائلات والأطفال والشباب؟
أضاف البابا فرنسيس يقول لا يمكننا أن نقبل أن يتوقف مجتمعنا عن أن يكون مولِّدًا للحياة وأن ينحطَّ في الحزن. لا يمكننا أن نقبل بشكل سلبي أن يكافح الكثير من الشباب لكي يحققوا حلمهم العائلي وأن يكونوا مُجبرين على خفض مستوى الرغبة، والاكتفاء ببدائل خاصة ودون المستوى: كسب المال، والسعي للحصول على وظيفة، والسفر، والحفاظ على وقت الفراغ… – جميعها أمور جيدة وصحيحة عندما تكون جزءًا من مشروع يولِّد ويعطي الحياة من حوله وبعدها؛ أما إذا بقيت مجرّد تطلعات فردية، فستجف في الأنانية وتقود إلى ذلك التعب الداخلي الذي يخدر الرغبات العظيمة ويميز مجتمعنا كمجتمع التعب! لنعطِ نَفَسًا لرغبات الشباب بالسعادة! كل واحد منا يختبر ما هو مؤشر سعادته: عندما نشعر بالامتلاء بشيء يولِّد الرجاء ويدفئ الروح، نشعر بعفويّة مشاركته مع الآخرين. أما عندما نشعر بالحزن فندافع عن ذواتنا، وننغلق على أنفسنا ونرى كل شيء كتهديد لنا. إن الولادات، كما الاستقبال، لا يمكنهما أبداً أن يتعارضا لأنهما وجهان لعملة واحدة، ويكشفان لنا مدى السعادة الموجودة في مجتمع ما. إنَّ الجماعة السعيدة تطوِّر بشكل طبيعي الرغبة في التوليد والادماج، بينما يتحوّل المجتمع التعيس إلى مجرَّد مجموعة من أفراد يحاولون الدفاع عما لديهم بأي ثمن.
تابع الأب الأقدس يقول أيها الأصدقاء، بعد مشاركة هذه المخاوف التي أحملها في قلبي، أريد أن أسلّمكم كلمة عزيزة على قلبي: الرجاء. إن تحدي الولادات هو مسألة رجاء. لكن تنبهوا، إن الرجاء ليس، كما يعتقد البعض غالبًا، مجرّد تفاؤل كما أنّه ليس شعورًا إيجابيًا غامضًا حول المستقبل. كما أنه ليس وهمًا أو عاطفة. إنه فضيلة ملموسة. وتتعلق بالخيارات الملموسة. يتغذى الرجاء من التزام الجميع بالخير، وينمو عندما نشعر بأننا نشارك في إعطاء معنى لحياتنا وحياة الآخرين. لذلك فإن تغذية الرجاء هو عمل اجتماعي وفكري وفني وسياسي بالمعنى الأسمى للكلمة، إنه أن نضع مهاراتنا ومواردنا في خدمة الخير العام، إنه أن نزرع المستقبل. الرجاء يولِّد التغيير ويحسِّن المستقبل.
أضاف الحبر الأعظم يقول يطيب لي أن أفكر في المؤتمر حول أوضاع الولادات في إيطاليا – الذي بلغ نسخته الثالثة – كورشة رجاء. ورشة لا يتمُّ العمل فيها بالعمولة، لأن هناك شخص يدفع، وإنما حيث يعمل الجميع معًا لأنهم جميعًا يريدون أن يرجوا. ولذا أتمنى أن تكون هذه النسخة فرصة “لتوسيع الورشة”، لكي نخلق على عدة مستويات عهد رجاء كبير. من الجميل أن نرى هنا عالم السياسة والأعمال والمصارف والرياضة والترفيه والصحافة مجتمعين لمناقشة كيفية الانتقال من الشتاء إلى الربيع الديموغرافي. وحول كيفية البدء مجدّدًا بالولادات، ليس على الصعيد الجسدي وحسب وإنما على الصعيد الداخليِّ أيضًا، لكي ننير المستقبل بالرجاء. لا نستسلمنَّ للبلادة والتشاؤم العقيم. ولا نفكِّرنَّ أن التاريخ قد حُدِّد، وأنه لا يمكننا أن نفعل أي شيء لكي نعكس هذه النزعة. لأنه – اسمحوا لي أن أقولها بلغتي المفضلة، لغة الكتاب المقدس – في أكثر الصحاري جفافاً يفتح الله دروبًا جديدة. لنبحث معًا إذًا عن هذه المسارات!
وختم البابا فرنسيس كلمته بالقول إن الرجاء في الواقع، يسائلنا لكي نتحرّك من أجل إيجاد حلول تعطي شكلاً لمجتمع يليق بالمرحلة التاريخية التي نعيشها، زمن أزمة يطبعه الكثير من الظلم. أن نعيد إعطاء دفع للولادات يعني أن نصلح أشكال الإقصاء الاجتماعي التي تؤثر على الشباب ومستقبلهم. وهي خدمة للجميع: إنَّ الأبناء ليسوا خيورًا فردية، لكنهم أشخاص يساهمون في نمو الجميع، ويولِّدون غنى بشريًّا وبين الأجيال. لكم، أنتم الحاضرين هنا من أجل إيجاد حلول جيدة، نتيجة لاحترافكم ومهاراتكم، أود أن أقول: أشعروا بأنكم مدعوون إلى المهمة العظيمة لإعادة توليد الرجاء، ولإطلاق عمليات تعطي الزخم والحياة لإيطاليا وأوروبا والعالم.
Comments are closed.