بين العلم والأخلاق بقلم الأب الياس كرم
تُدهشك بعض المواقف الصادمة، التي تصدر عن أشخاص، من المفترض أنّهم حضاريّون، متعلّمون، مثقّفون “وأبناء عائلات”.
فعلًا ليس العلم شيئًا، ولا الشهادات شيئًا، ولا المال شيئًا، عند التصرّفات الفاضحة والكلمات النابية، الصادرة من أصحاب هذه الصفات، حيث لا يمكن أن تكتشف كينونتهم إلا عند التجربة، فتنجلي حقيقتهم. وبدل أن يتفوّه لسانهم، بالطيّبات والأخلاق، يصدر عنهم نتانةٌ وقباحة.
المظاهر تغشّك، والملابس الفاخرة لا تستر قذارة النفس ووسخ الخطيئة، والعطور الغالية الثمن، ليس بإمكانها أن تحجب عن قليلي الأخلاق، ما يصدر عنهم من رائحة الفضائح وانكشاف للمواقف.
يتذرّع الناس، عندنا، لتثبيت مكانتهم في المجتمع، باستعمال عبارة: انسان متعلّم، ناسين أنّ العِلْـمَ هو أسلوب منهجي لبناء وتنظيم المعرفة. فالعلمُ هو المصباح الذي يُنيرُ دُورب الحياة ويُخرج الانسان من مغاور الجهل والظلام، ويطلقهم إلى المدى المستنير. إن كلّ معرفة علم، ولكن ليس كلّ علم معرفة. فالمعرفة أوسع وأشمل من العلم، حيث تشتمل على معارف علميّة وغير علميّة. العلم، عزيزي القارئ، هو نقيض الجهل والهوى، ولكنّه يبقى ناقصًا، لذلك ليس كل مَن نال علمًا بات يملك معرفة، وليس كل من يملك معرفة قد يملك أخلاقًا. أما مَن يملك أخلاقا فبإمكانه أن ينال علمًا ومعرفةً وثقافة. الأخلاق الحميدة تولد مع الإنسان، أما العلم والمعرفة والثقافة فيكتسبهم في غمار الحياة.
يمكن أن تشتري العلم، ولكن ليس بإمكان أحد أن يشتري أخلاقًا. فهناك أطباء، مثلًا، يملكون كفاءات علمية كبيرة، ولكن يفتقرون إلى أخلاقيّات المهنة.
مبادئ الأخلاق، عندنا نحن المسيحيين، نستمدّها من الإنجيل، حيث نجد ما نحتاج أن نعرفه عن الحياة المسيحية، ونستمد منه كافة مناهج الأخلاق، حتّى ولو أنّ الإنجيل لم يسمّ الأشياء بتفصيلها. على سبيل المثال، لا الحصر، تعاطي المخدرات، التي هي غير مذكورة بصورة مباشرة في الإنجيل، ولكن بناء على المبادئ التي نتعلّمها من كلمة الله، يمكننا أن نعرف أن هذا خطأ. فالأنجيل يقول أن أجسادنا هي هيكل الروح القدس، وبالتالي أي تصرّف يؤذي هيكلنا الجسدي والنفسي، نبتعد عنه.
أستخلص القول، إنّ الأخلاق تتقدّم على العلم والمعرفة والثقافة، مع أهميتهم الكبرى. إذ من المفترض بمكان ما، أن اكتساب هذه الثلاثية، من شأنها إعلاء للقيم والأخلاق، لا أن نسلك في الجهل والغباوة. لعل تربية النشء وتعليمهم وتدريبهم على القيام بالأعمال الصالحة، والأخلاق والسنن الحميدة، هي أكثر مظهر من مظاهر الحياة الراقية والتربية الناجعة.
قد يطول الحديث ويتشعّب في هذا الإطار، ولكن بالمحصّلة تبقى الأخلاق أساس صيرورة الإنسان نحو الوجودية الانسانية البحت.
أختم بقول للمطران أنطونيوس الصوري (مطران زحلة وبعلبك وتوابعهما): “لا أخلاق في المسيحيّة سوى ما نسمّيه الفضائل التي هي عيش مشيئة الله، أي أنّ الإنسان يتمِّم في كلّ حين وصيّة المحبّة الإلهيّة بالتآزر بين مشيئته وإرادته وجهاده مع نعمة الروح القدس. الأخلاق المسيحيّة هي تخطّي البَشَرَةَ وشهواتها وضعفاتها وأهوائها وعقدها والعيش في “حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ اللهِ …” (رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية ٨: ٢١).
Comments are closed.