عندما يُذبحُ الميلادُ في مهدِهِ بقلم فيلومين نصار
“هَا هي الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ، الذي تفسيرُهُ اللهُ معنا”..
“أَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبًا، مُشِيرًا، إِلهًا قَدِيرًا، أَبًا أَبَدِيًّا، رَئِيسَ السَّلاَمِ” (إشعياء 14:7؛ 6:9).
وُلِد المسيحُ، كلمةُ اللهِ، تجسَّدَ وصارَ بشرًا في مذوذٍ متواضعٍ في مدينةِ بيتِ لحم، فهلَّلَتْ ملائكةُ السماءِ وأجنادُ الأرضِ للمولودِ المخلِّص.
“الميلاد” يعني افتقادَ السماءِ ورحمتَها للأرضِ والبشر. هو المحبةُ الأبديةُ التي تملأ قلبَ الله نحو جنسِنا البشري الخاطىء. مُرسِلاً نورَهُ الساطع والمتدفِّق، إلى عالمنا الساقطِ في مستنقع العنفِ والعداءِ والكراهيةِ والجشعِ والحقد والرذيلةِ والفساد.
نحاولُ تلمُّسَ الفرح، لكن هيهات؛ فإن الفرحَ بالميلاد قتلَهُ هيرودوس ملكُ اليهودُ قبل أكثر من ألفي عام، ولا زال أبناؤه وأحفادهُ يمارسونَهُ بدمويةٍ أعنفَ منذ ذلك الوقت وحتى الآن. قتلَ هيرودوس – الملكَ الأرضي- قتلَ ملكَ ورئيسَ السلام الذي قال “مملكتي ليستْ من هذا العالم”، ظنًّا منه أنَّ الطفلَ المولودَ سيخطِفُ الحُكْمَ منهُ ومن الوُلاةِ المتجبرينَ بالبلادِ والعباد.. فأمرَ بقتلِ كلِّ أطفالِ بيت لحم الذكور من إبنِ سنتين فما دون، كي يضمنَ أنَّ الطفلَ يسوع قد ذُبِحَ معهم:
(وإِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لِيُوسُفَ فِي حُلْمٍ قَائِلاً: «قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاهْرُبْ إِلَى مِصْرَ، وَكُنْ هُنَاكَ حَتَّى أَقُولَ لَكَ؛ لأَنَّ هِيرُودُسَ مُزْمِعٌ أَنْ يَطْلُبَ الصَّبِيَّ لِيُهْلِكَهُ.» فَقَامَ وَأَخَذَ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ لَيْلاً وَانْصَرَفَ إِلَى مِصْرَ. وَكَانَ هُنَاكَ إِلَى وَفَاةِ هِيرُودُسَ. لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِيِّ القَائِل: «مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي» حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى هِيرُودُسُ أَنَّ الْمَجُوسَ سَخِرُوا بِهِ غَضِبَ جِدًّا. فَأَرْسَلَ وَقَتَلَ جَمِيعَ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ فِي بَيْتِ لَحْمٍ وَفِي كُلِّ تُخُومِها، مِنِ ابْنِ سَنَتَيْنِ فَمَا دُونُ، بِحَسَبِ الزَّمَانِ الَّذِي تَحَقَّقَهُ مِنَ الْمَجُوسِ. حِينَئِذٍ تَمَّ مَا قِيلَ بِإِرْمِيَا النَّبِيِّ الْقائِلِ: «صَوْتٌ سُمِعَ فِي الرَّامَةِ، نَوْحٌ وَبُكَاءٌ وَعَوِيلٌ كَثِيرٌ. رَاحِيلُ تَبْكِي عَلَى أَوْلاَدِهَا وَلاَ تُرِيدُ أَنْ تَتَعَزَّى، لأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ.»
ما أشبه الأمس البعيد باليومِ القريب ..فقد ارتفعَ صوتُ راحيلَ الفلسطينية والغزاوية بالنَواحِ وَالبُكَاءِ وَالعَوِيلُ أكَثر. تصاعدَ بكاؤها عَلَى أَوْلاَدِها حتى وصلَ المسكونةَ، وَلاَ تُرِيدُ أَنْ تَتَعَزَّى، لأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ. الويلُ لمرتكبي المذابحِ والمجازرِ التي اعتاد اليهودُ على اقترافِها منذ أكثر من ألفي عام، لتشملَ كلَّ الجغرافيا الفلسطينية. قتلَتْ البغضاءُ الإسرائيليةَ السلامَ وعلَّقتْهُ على أعوادِ المشانقِ. صوتُ دمِ الأطفال الذي سُمعَ في الرامةِ وفي بيتِ لحم، يُسمعُ ويُسالُ اليومَ في شوارع وأزقَّةِ غزة الأبية؛ في القدس وبيت لحم وجنين ونابلس والخليل وأريحا. فهل ما زالت نبوءات أشعياء وإرميا سارية المفعول حتى اليوم؟ ها هي إسرائيل تقتلُ وتدفعُ بأهالي قطاع غزة للرحيلِ إلى سيناء المصرية (من مصرَ دعوتُ إبني) إلى حين “تنظيف وتطهيرِ القطاعِ من أهله، وبعدها “ستسمحُ” لمن تبقَّى منهم أحياءً بالعودة إلى بيوتهم المدمَّرة .. إجرامٌ لا يفسَّر ولا يُنطقْ به!.
أتُرانا لم نفهمْ عمقَ رسالةِ السيد المسيح؟ هو الذي حاولَ أن يزرعَ في نفوسِنا قِيَمَ العدلِ والعدالةِ والطمأنينةِ والفرحِ والسلام والمحبةِ والتواضعِ والفداء؟ أم أننا نمتلِك “ذاكرةَ السمكة”! ننسى ما يدورُ حولَنا من شرورِ وجشع، وكراهية، وأوجاعِ، وغيابِ للحقوقِ والمساواة والكرامة الإنسانية، واغتيالِ كل المبادىء السامية أعلاه على أيدي مجرمي التاريخ بحقِّ البشرية.
فكيف نتسامحُ مع القاتل؟ وكيفَ نكذِبُ على أنفسِنا وأهلِينا، المقيمينَ في قلوبِنا وأوطانِنا وبين ظهرانينا، ونحن نعيش يوميا مآسي إنسانية يعجز الذهنُ والقلمُ والأوراق عن وصفها واستيعابها؟ وكيف لنا أن نطبِّقَ رسالةَ العدلِ والسلامِ ومغفرة الخطايا التي حملها لنا طفلُ المذوذْ؟ هل نعيش تناقضًا بين إيماننا وبين الواقع؟ هل أصبْنا بشيزوفرينيا الطبيعة البشرية والرسالة السماوية؟؟
إن عيدَ الميلادِ ليس حدثًا انتهى، بل هو تجسيدٌ للتاريخِ الإنساني، الذي ابتدأ في سفرِ التكوين واستمرَّ بنبوءاتِ العهدِ القديم، وانتهى في سفر الرؤيا باكتمال الفداءِ على الصليب، ومُلْكِ المسيحِ الأبديّ. الميلاد هو نقطةُ تحوّلٍ أساسية في مسارِ دائرةِ البشر الحياتية والإيمانية، حيثُ التجسُّد يعني الخلاص والفداء لنا نحن الخطأة. وُلدَ المسيحُ ليُدشّنَ لنا الطريقَ إلى الملكوت السماوي من خلالِ إيمانِنا به، والعملِ بوصاياه، ومحبتِه الفائقة لنا.
تضرعاتُنا وصلواتُنا ورسالتُنا الميلادية لهذا العام، أن يهدينا الطفل المولود، الحملُ الرافعُ خطايا العالم، بركةَ ونعمةَ السلام والمحبة، واستعادةَ العدلِ والحقوقِ المشروعةِ لأهلِنا في فلسطين وفي العالمِ أجمع، وإنهاءَ جميع أفعال الظلمِ والوحشيةِ والجوع والاستبداد والتشريدِ والقتل، وليرحمَ جميعَ الشهداءِ الذي سقطوا على ثرى فلسطين الطاهرة، فداءً للوطن ولحياةٍ كريمةٍ، حيثُ اختلطتْ دماؤُهم الطاهرةَ بدماءِ أطفالِ بيت لحم المذبوحينَ عنا قبل ألفي عام.
فهل نحنُ بحاجةٍ إلى ميلادٍ جديدٍ للطفل يسوع، كي ينهي هذه الجرائم والألم والبشاعة غير الإنسانية؟ أم نحن بحاجة إلى تجدُّدٍ وولادةٍ جديدةٍ في حياتنا الداخلية مع الميلاد؟
ربنا بنعمتك الإلهية إستمع واستجب. آمين.
Comments are closed.