“لقد أحبنا”، الرسالة العامة للبابا فرنسيس حول قلب يسوع الأقدس
“لقد أحبنا”، يقول القديس بولس مشيرًا إلى المسيح، لكي يجعلنا نكتشف أنّ! “لا شيء يمكنه أن يفصلنا” عن هذه المحبة. هكذا تبدأ الرسالة العامة الرابعة للبابا فرنسيس التي تحمل عنوان “Dilexit nos” والمكرسة للحب البشري والحب الإلهي لقلب يسوع المسيح: “إن قلبه المفتوح يسبقنا وينتظرنا بدون شروط، بدون أن يطلب أي مُستلزم مسبق لكي يحبنا ويمنحنا صداقته: لقد أحبنا أولاً. وبفضل يسوع “عرفنا المحبة التي يظهرها الله بيننا وآمنا بها”.
يكتب البابا فرنسيس في مجتمع يشهد تكاثر “أشكال مختلفة من التديّن بدون الإشارة إلى علاقة شخصية مع إله المحبة” (٨٧)، وبينما تنسى المسيحية في كثير من الأحيان “حنان الإيمان، وفرح التفاني في الخدمة، وحماس الرسالة من شخص إلى شخص” (٨٨)، يقترح البابا فرنسيس تعمُّقًا جديدًا لمحبة المسيح المتمثلة في قلبه المقدس، ويدعونا لكي نجدد عبادته الأصيلة متذكرين أننا في قلب المسيح “يمكننا أن نجد الإنجيل كله” (٨٩): لأننا في قلبه “نتعرف على أنفسنا ونتعلم المحبة” (٣٠).
يشرح البابا فرنسيس أنه من خلال اللقاء بمحبة المسيح “نصبح قادرين على نسج روابط أخوية والاعتراف بكرامة كل إنسان والعناية معًا ببيتنا المشترك”، كما يدعونا إلى ذلك في رسالتيه العامتين الاجتماعيتين “Laudato si” و “Fratelli tutti” (٢١٧). وأمام قلب المسيح، يطلب من الرب “أن يتحنن مرة أخرى على هذه الأرض الجريحة” ويسكب عليها “كنوز نوره ومحبته”، لكي يتمكن العالم “الذي يعيش وسط الحروب والاختلالات الاجتماعية والاقتصادية والاستهلاكية والاستخدام المعادي للبشرية للتكنولوجيا، من استعادة ما هو أهم وضروري: القلب” (٣١). في إعلانه عن إعداد الوثيقة، في نهاية المقابلة العامة في ٥ حزيران يونيو، أوضح الحبر الأعظم أنها ستساعد على التأمل حول جوانب “محبة الرب التي يمكنها أن تنير مسيرة التجديد الكنسي، والتي يمكنها أيضًا أن تقول شيئًا مهمًّا لعالم يبدو أنه قد فَقَد قلبه”. وهذا في الوقت الذي تجري فيه الاحتفالات بالذكرى الـ ٣٥٠ لأول ظهور لقلب يسوع الأقدس للقديسة مارغريت ماري ألاكوك في عام ١٦٧٣، والتي ستختتم في ٢٧ حزيران يونيو ٢٠٢٥.
تُفتتح الرسالة العامة حول عبادة قلب يسوع الأقدس بمقدمة موجزة وهي مقسمة إلى خمسة فصول، وتجمع، كما أعلن البابا في حزيران يونيو، “التأملات الثمينة لنصوص التعاليم البابوية السابقة ولتاريخ طويل يعود إلى الكتاب المقدس، لكي تعيد اليوم طرح هذه العبادة المفعمة بالجمال الروحي على الكنيسة بأسرها”.
يشرح الفصل الأول، “أهمية القلب”، لماذا من الضروري “أن نعود إلى القلب” في عالم نميل فيه إلى “أن نصبح مستهلكين نهمين وعبيدًا لآليات السوق” (٢). ويقوم بذلك من خلال تحليل لما نعنيه بـ “القلب”: يتحدث الكتاب المقدس عنه كنواة “تكمن وراء كل المظاهر” (٤)، مكان “لا يهم فيه ما يظهر في الخارج أو ما هو خفي، لأننا فيه نحن أنفسنا” (٦). إلى القلب تقودنا الأسئلة المهمة: ما هو المعنى الذي أريد أن يكون لحياتي وخياراتي وأفعالي، من أنا أمام الله (٨). ويشير البابا إلى أن الانتقاص الحالي من قيمة القلب يولد من “العقلانية اليونانية وما قبل المسيحية، والمثالية ما بعد المسيحية والمادية “، بحيث تم في الفكر الفلسفي الكبير تفضيل مفاهيم مثل “العقل والإرادة والحرية”. وإذ لم يوجد مكانًا للقلب، “لم يتم حتى تطوير فكرة المركز الشخصي” الذي يمكنه أن يوحد كل شيء، أي الحب (١٠). ولكن، بالنسبة للحبر الأعظم، على كلِّ واحد منا أن يعترف “أنا قلبي، لأنه هو ما يميزني ويشكلني في هويتي الروحية ويضعني في شركة مع الآخرين” (١٤).
إن القلب هو “الذي يوحّد الأجزاء” ويجعل ممكنًا “كل رباط أصيل، لأن العلاقة التي لا تُبنى بالقلب تكون غير قادرة على تخطي تجزئة الفردية” (١٧). إن روحانية القديسين مثل إغناطيوس دي لويولا (قبول صداقة الرب هي مسألة القلب) والقديس يوحنا هنري نيومان (الرب يخلصنا من خلال مخاطبة قلبنا من قلبه المقدس) تعلمنا، كما يكتب البابا فرنسيس، أنه “أمام قلب يسوع الحي والحاضر يفهم ذهننا الذي ينيره الروح القدس، كلمات يسوع” (٢٧). وهذا الأمر له تبعات اجتماعية، لأن “العالم يمكنه أن يتغيّر انطلاقًا من القلب” (٢٨).
يخصَّص الفصل الثاني لتصرفات المسيح وكلمات المحبة التي قالها. إن التصرفات التي يعاملنا بها كأصدقاء ويظهر لنا أن الله “هو قرب وشفقة وحنان” نراها في لقاءاته مع المرأة السامرية، مع نيقوديموس، مع المرأة الزانية ومع الأعمى على الطريق (٣٥). إن نظرته التي “تسبُر عمق كيانك” (٣٩)، تُظهر أن يسوع “يولي كل اهتمامه للأشخاص، لهمومهم، ولآلامهم” (٤٠). لدرجة أننا “نُعجَب بالأمور الصالحة التي يتعرّف عليها فينا” كما في قائد المئة، حتى وإن تجاهلها الآخرون (٤١). إن كلمة محبته الأكثر بلاغة هي كونه “قد سُمِّر على الصليب”، بعد أن بكى على صديقه لعازر وتألم في بستان الزيتون، مدركًا موته العنيف “على يد الذين أحبهم جدًا” (٤٦).
في الفصل الثالث، “هذا هو القلب الذي أحبّ كثيرًا”، يذكّر الحبر الأعظم كيف أن الكنيسة تتأمل وقد تأملت في الماضي “في سرّ قلب الرب المقدس”. ويقوم بذلك من خلال الإشارة إلى الرسالة العامة “ Haurietis aquas ” التي أصدرها البابا بيوس الثاني عشر حول التعبّد لقلب يسوع الأقدس (١٩٥٦). ويوضح أن “التعبُّد لقلب المسيح ليس عبادة عضو منفصل عن شخص يسوع”، لأننا نعبد “يسوع المسيح كله، ابن الله الذي صار إنسانًا، ممثلاً في صورة له يبرز فيها قلبه” (٤٨). إن صورة القلب من لحم، كما يؤكد البابا، تساعدنا على التأمل، في العبادة، بأن “محبة قلب يسوع المسيح، لا تشمل فقط المحبة الإلهية، بل تمتد إلى مشاعر المودة البشريّة” (٦١) إن قلبه، يتابع البابا فرنسيس مقتبسًا من البابا بندكتس السادس عشر، يحتوي على “محبة ثلاثية”: محبة قلبه الجسدية الحساسة “ومحبته الروحية المزدوجة، البشرية والإلهية”، التي نجد فيها “اللامتناهي في المحدود” (٦٤).
ويشير البابا فرنسيس إلى أن رؤى بعض القديسين، ولا سيما المتعبِّدين لقلب المسيح، “هي محفزات جميلة يمكنها أن تحفز وتحقق الكثير من الخير”، ولكنها “ليست شيئاً يجب على المؤمنين أن يؤمنوا به كما لو كانت كلمة الله”. لذلك يذكّر الأب الأقدس مع بيوس الثاني عشر بأنه لا يمكن القول إن هذه العبادة “تدين بأصلها إلى وحي خاص”. لا بل “إن التعبُّد لقلب المسيح هو أساسي لحياتنا المسيحية بقدر ما يدل على الانفتاح الكامل للإيمان والعبادة لسر حب الرب الإلهي والبشري، لدرجة أنه يمكننا أن نؤكد مرة أخرى أن القلب الأقدس هو خلاصة الإنجيل”. (٨٣). ويدعو الحبر الأعظم بعدها إلى تجديد التعبُّد لقلب المسيح أيضًا لمواجهة “المظاهر الجديدة لـ “روحانية بلا جسد” والتي تتكاثر في المجتمع” (٨٧). هناك حاجة إلى العودة إلى “خلاصة الإنجيل المتجسدة” (٩٠) إزاء “الجماعات والرعاة الذين يركزون فقط على النشاطات الخارجية، والإصلاحات الهيكلية الخالية من الإنجيل، والمنظمات المهووسة، والمشاريع الدنيوية، والتفكير المُعلمَن، حول مختلف المقترحات المقدمة كمتطلبات يتمُّ الادعاء أحيانًا بفرضها على الجميع” (٨٨).
في الفصلين الأخيرين يسلط البابا فرنسيس الضوء على الجانبين اللذين ينبغي على التعبُّد للقلب الأقدس أن يجمعهما معًا “لكي يغذّينا ويقرّبنا من الإنجيل”: الخبرة الروحية الشخصية والالتزام الجماعي والإرسالي (٩١). ففي الفصل الرابع، “الحب الذي يعطيك لتشرب”، يعيد قراءة الكتاب المقدس، ومع المسيحيين الأوائل، يتعرّف على المسيح وجنبه المفتوح في “ذاك الذي طعنوه”، والذي يشير إليه الله نفسه في نبوءة سفر زكريا. ينبوع مفتوح للشعب لكي يروي عطشه لمحبة الله، و”لكي يغسل الخطيئة والنجاسة” (٩٥). لقد أشار العديد من آباء الكنيسة إلى “جرح جنب يسوع كمصدر لماء الروح”، وعلى رأسهم القديس أوغسطينوس الذي “فتح الطريق للتعبد للقلب الأقدس كمكان لقاء شخصي مع الرب” (١٠٣). يذكر البابا أن هذا الجنب الجريح، شيئًا فشيئًا، “بدأ يأخذ صورة القلب” (١٠٩)، ويقدم لائحة بالعديد من النساء القديسات اللواتي “روين خبرات لقائهن مع المسيح، والتي تميزت بالراحة في قلب الرب” (١١٠). من بين المتعبِّدين لقلب يسوع الأقدس في العصر الحديث، تتحدث الرسالة العامة أولاً عن القديس فرنسيس دي سال الذي يصور اقتراحه للحياة الروحية بـ “قلب مطعون بسهمين، محاط بإكليل من الشوك” (١١٨)
تحت تأثير هذه الروحانية، تروي لنا القديسة مارغريت ماري ألاكوك ظهورات يسوع في باراي لو-مونيال، بين نهاية كانون الأول ديسمبر ١٦٧٣ وحزيران يونيو ١٦٧٥. ويمكن تلخيص جوهر الرسالة التي نُقلت إلينا في تلك الكلمات التي سمعتها القديسة مارغريت: “هذا هو القلب الذي أحب البشر كثيرًا ولم يدَّخر شيئًا لدرجة أنه أفنى نفسه لكي يشهد على محبّته لهم” (١٢١).
تذكر الوثيقة عن القديسة تيريزيا الطفل يسوع أنها كانت تسمّي يسوع “ذلك الذي يخفق قلبه في انسجام مع قلبي” (١٣٤) ورسائلها إلى أختها ماري، التي تساعدها على عدم تركيز التعبد للقلب الأقدس “على جانب الألم”، أي ذلك الذي يفهم التعويض كـ “أولوية التضحيات”، بل على الثقة “كأفضل تقدمة تُرضي قلب المسيح” (١٣٨). يكرس الحبر الأعظم أيضًا بعض المقاطع من الرسالة العامة لمكانة القلب الأقدس في تاريخ الرهبانية اليسوعيّة، مؤكدًا أن القديس إغناطيوس دي لويولا يقترح في كتابه “الرياضات الروحية”، “الدخول في قلب المسيح” في حوار من القلب إلى القلب. في كانون الأول ديسمبر ١٨٧١، كرّس الأب بيكس الرهبانية لقلب يسوع الأقدس، وقام الأب أرّوبيه بذلك مرة أخرى في عام ١٩٧٢ (١٤٦). كذلك يُذكر البابا أن خبرات القديسة فوستينا كوالسكا قد أعادت طرح عبادة قلب يسوع “بتركيز قوي على الحياة المجيدة للقائم من الموت وعلى الرحمة الإلهية”، وبدافع من ذلك ربط القديس يوحنا بولس الثاني أيضًا “بشكل وثيق بين تأملها حول الرحمة والتعبّد لقلب المسيح” (١٤٩). وفي الحديث عن “عبادة التعزية”، يوضح الإرشاد الرسولي أنه أمام علامات الآلام التي حفظها قلب القائم من الموت، لا مفر من “أن يرغب المؤمن في الاستجابة” أيضًا “للألم الذي قبل المسيح أن يتحمله محبّة بنا” (١٥١). ويطلب “ألا يسخر أحد من تعابير الحماس الإيماني لشعب الله الأمين، الذي يسعى في تقواه الشعبية إلى تعزية المسيح” (١٦٠). لكي “وإذ نرغب في تعزيته، نخرج نحن وقد تعزّينا ويمكننا أيضًا أن نعزي الذين يجدون أنفسهم في ضيق” (١٦٢).
يتعمق الفصل الخامس والأخير “الحب بالحب” في البعد الجماعي والاجتماعي والإرسالي لكل عبادة أصيلة لقلب المسيح، الذي “وإذ يقودنا إلى الآب، يرسلنا إلى الإخوة” (١٦٣). في الواقع، إن محبة الإخوة هي “أعظم بادرة يمكننا أن نقدمها له لكي نبادل الحب بالحب” (١٦٧). بالنظر إلى تاريخ الروحانيّة، يذكّر الحبر الأعظم بأن التزام القديس شارل دي فوكو الإرسالي قد جعله “أخًا كونيًّا”: “إذ سمح لقلب المسيح أن يصوغه، أراد أن يستقبل في قلبه الأخوي البشرية المتألِّمة بأسرها” (١٧٩). بعدها يتحدث البابا فرنسيس عن “التعويض”، كما شرح القديس البابا يوحنا بولس الثاني: “من خلال تقدمة ذواتنا معًا لقلب المسيح، “على الأنقاض التي راكمتها الكراهية والعنف، يمكننا أن نبني حضارة الحب التي نتوق إليها، ملكوت قلب المسيح” (١٨٢).
كذلك تذكّر الرسالة العامة مرة أخرى مع القديس يوحنا بولس الثاني بأن “التكرُّس لـقلب المسيح “يجب أن يسير جنبًا إلى جنب مع عمل الكنيسة الإرسالي، لأنه يستجيب لرغبة قلب يسوع في أن ينشر في العالم، من خلال أعضاء جسده، تكرُّسه الكامل للملكوت”. وبالتالي، من خلال المسيحيين، “تُسكب المحبة في قلوب البشر، لكي يُبنى جسد المسيح الذي هو الكنيسة، ويُبنى أيضًا مجتمع العدالة والسلام والأخوة” (٢٠٦). لتجنب الخطر الكبير، الذي أكد عليه القديس بولس السادس، بأن “نقول أشياء كثيرة ونفعل أشياء كثيرة، في الرسالة بدون أن نتمكن من أن نخلق اللقاء السعيد مع محبة المسيح” (٢٠٨)، نحن بحاجة إلى “مرسلين شغوفين بمحبة الله، يسمحون للمسيح بأن “يستولي عليهم” (٢٠٩).
ويختتم البابا فرنسيس الرسالة العامة بهذه الصلاة: “أصلي إلى الرب يسوع لكي تتدفق من قلبه المقدس من أجلنا جميعًا أنهار ماء حي تشفي الجراح التي نسببها لأنفسنا، وتقوي قدرتنا على الحب والخدمة، وتدفعنا لكي نتعلم أن نسير معًا نحو عالم عادل ومتضامن وأخوي. وذلك إلى أن نحتفل معًا متحدين بمأدبة الملكوت السماوي. حيث سيكون المسيح القائم من بين الأموات الذي سيوفِّق بين جميع اختلافاتنا بالنور الذي يتدفّق بلا انقطاع من قلبه المفتوح. ليكن مباركًا إلى الأبد!” (٢٢٠).
Comments are closed.