رَحَلَ غازي مشَربَش عن عالمِنا ولن يَرحَل من قلوبِنا بقلم القس سامر عازر
آخر لقاء كان بيننا في أمسية النادي الأرثوذكسي يوم الثلاثاء 3/12/2024 على هامش ندوة السردية في مواجهة خطاب الكراهية، والتي جرى فيها تكريمي وتكريم الصحفية المبدعة رولا سماعين بدرعي “قائد وصانع سلام 2023” والذي تأخر قليلا تباعاً لأحداث غزة التي تدمي قلوبنا جميعا.
وقبلها قبل حوالي أسبوع كنت قد تناولت طعام الإفطار مع أبي فريد وأم فريد في مكان إقامتهم، حيث كانت الإبتسامة لا تفارق محيّاهما ولا الكلمة الطيبة المنسكبة من فم الغالية أم فريد ولا إحساس قلبها المرهف وهي تترضّى على الكل وتدعو بالتوفيق لأحبابهم وأصدقائهم وكأنها قديسة- وهي كذلك، تناجي الله بالليل والنهار في السّر والعلن، مؤمنة بأنَّ طلبة البار تقتدر كثيرا في فعلها كما علمّنا القديس يعقوب، مؤمنة بحكمة الله وقدرته وإرادته كيفما شاء وارتضى، وبأن الحياة لا بدّ أن تمضي للأمام بروح الإيمان والرجاء والمحبة.
ما يُعرف عن أبي فريد صفاتٌ كثيرة قلمنا تجدها في أي شخص مجتمعة، فهو قبل كل شيء إنساني يحب الخير للجميع ولا يأل جهدا بتقديم المساعدة بطرق خلاقة لم تخطر على بال أحد، بنظرة ثاقبة واجتهاد موضوعي، محللا الأسباب والعلل ومقدما الحلول المنطقية القادرة أن تعالج المشهد وتؤول بالنفع على صاحبه. وفي الوقت الذي انتهت فيه دورته النيابية لم ينقطع عن الناس ولم يغلق هاتفه النقال ولم ينأى بنفسه عن مشاركة الناس في أتراحهم قبل أفراحهم وكأنها رسالة موضوع على قلبة بالتواصل مع الناس وحبهم ونسج روابط المحبة والأخوة التي يعرفها مجتمعنا الأردني والتي تجمع مسلمي الأردن ومسيحييه ومن كل الأطياف والخلفيات والتيارات الفكرية والسياسية والإجتماعية والعرقية. وعلاوة على إنسانتيه فقد كان رجلا وفيا صادقا في تعامله بعيدا عن نمط الإزدواجية في التعامل، وملتزما بما يقوله عملا وتنفيذا ولو كلفه ذلك المشقة والتعب والعناء. وقد أثبت وطنيته بإخلاص لوطنه الأردن ولقيادته الهاشمية ولعطائه الموصول في خدمة المجتمع من خلال خدمته في عدة مجالات وعلى عدة لجان تشريعية وتنفيذية تابعة للكنيسة الأسقفية العربية ومنها مدرستي الأهلية والمطران، ومديرا عاماً لمدرسة ثيودور شنلر في عمان وعضو في الهيئة الإدارية لمجلس كنائس الشرق الأدنى لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين والعديد من المؤسسات الخيرية والتربوية والإجتماعية ومشاركاً في العديد من الفعاليات والحورات والمحاضرات المختلفة ولجان مجتمعية متعددة التي أعطاها من وقته وجهده وفكره وماله، ومقدما الدعم حيثما أمكن، ومقدرا طيلة حياته البيت الداخلي التابع للكنيسة اللوثرية في بيت جالا حيث نشأ وترعرع وعِشقَ تراب فلسطين كما الأردن وكان يرى وحدة الحال بين الكنسيتين ماضيا وحاضرا ومستقبلا أيضاً، وقد تكلم بإسم فلسطين حتى أنك تخاله فلسطيني أكثير من الفلسطينيين أنفسهم، وهذا هو ديدن الأردنيين عشقهم لفلسطين ولثراها ومقدساتها وأهلها التي يجمعهم ويربطهم معها نهر الأردن المقدس الذي تقدَّس بفعل عمّاد السيد المسيح في مياهه المقدسة. والأهم بشخصية أبا فريد عشقه للعمل المسكوني والوحدة المسيحية بين جميع الكنائس بروح المحبة والأخوة والحوار البنّاء البعيد عن التعصب الأعمى والعمل سوية لحمل نور إنجيل المسيح خدمة لجميع الناس دون تفرقة أو تمييز، فقد كانت تربطه صلات محببة ومتفردة كفرادته مع كل القيادات الكنسية وكل أبناء الرعايا داخل المملكة الأردنية الهاشمية وخارجها ومع الكنائس المشاركة في العالم أجمع، وكان صوتا للعروبة ولأردن الوئام الديني والعيش المشترك والأخوة الإسلامية المسيحية ولقضية فلسطين وللدفاع عن الثقافة والحضارة العربية مختصرا هويته بقوله المأثور ” أنا مسيحي أردني ذو ثقافة عربية وإسلامية”. ولذلك أحب الجميع والجميع أحبّه، فقد كان عامل تجميع لا تفريق، مصلحا ذات البين بين الناس ولكن ليس بمواربة للحقيقية والعدالة، ولكن بروح المسيح التي هي جوهر الإيمان المسيحي كما الإٍسلامي وقاعدته الإساسية.
وما عرف عنه جرأته السياسية وحمل قضايا الوطن ولكن بروح الموضوعية والإتزان بعيدا عن الشخصنة والتجريح، وكذلك الإهتمام بالشأن المسيحي فيما يختص بالأرث المسيحي والأعياد المسيحية الوطنية والتمثيل البرلماني المبني على أساس المواطنة وليس مبدأ الأقلية والأغلبية، والعمل على حل المشاكل المجتمعية المتعلقة بالزواج المختلط وتغيير العقيدة وما شابهمما.
الكلام يطول، ولكن ما هو ملفت للنظر أنَّ أبا فريد في أمسية النادي الأرثوذكس في ندوة “السردية في مواجهة خطاب الكراهية” لم يداخل ولم تكن له مشاركة وهذا بخلاف مع عهدنا عنه، وكان دائماً أخر المتحدثين ملخصا الأفكار المتعددة المطروحة والتي قد تكون متضاربة ومختلفة للخروج بوجهة نظر وبرؤية وطروحات عملية لوحدة الحال للخروج والعمل بها.
ربما عدم مداخلته في تلك الأمسية كانت تتعلق بصحته، فلربما كان شاعرا قليلا بتوعك في قلبه دون أن يظهر ذلك مما دعاه لمغادرة الندوة فور إنتهائها وتوفاه الله في كراج السيارات في النادي الأرثوذكسي. ولكن يحق لي أن أتفكر بأنَّه قد يكون هنالك سبب آخر لعدم مداخلته يجول في نفسه وهو أن السردية في بلدنا الأردن هي سردية الأخوة الإسلامية المسيحية التي رضعناها من آبائنا وأجدادنا في السلط والفحيص والكرك ومادبا وعجلون وجرش والحصن وفي كل الأرض الأردنية، وقد عزز هذه الأخوة ووحدة الحال والعيش المشترك قيادتنا الهاشمية المباركة في نهج هاشمي أصيل كابرا عن كابر في زَرعِ الوئام الديني بين جميع مكونات الشعب الأردني، إذ لا فرق مسلم على مسيحي إلا بالتقوى والعطاء، والجميع سواسية يجمعهم وطن واحد والدين لله. فما أراد أن يقوله أبو فريد بقرارة نفسه هو أن حالنا هو هذه السردية الأصيلة، وبأنّ ما نشهده أحيانا في وقتنا الحاضر من خطاب التطرف أو الكراهية هو دخيل علينا وجب وأده بكل السبل والطرق القانونية والتشريعية والتربوية والإعلامية والثقافية وخطابنا الديني والتنشئة البيتية.
رحل غازي مشربش/ أبو فريد عن عالمنا ولكن صعب أن يرحل من قلوبنا، فأبو فريد عملة فريدة يصعب تكرارُها وإجتماعُ كلِّ ما ذُكر من ميزات وخصال في شخص واحد، ولكن وكما يقول الكتاب المقدس ” وإن مات يتكلم بعد”.
عزاؤنا يا أبا فريد بإرثك الكبير وسمعتك الطيبة وعطائك الموصول وبصماتك الكثيرة، فإلى اللقاء في الأمجاد السماوية أيها العزيز على قلبي وشبين إبننا ناصر الذي يتخرَّج في عشرين الشهر الجاري في الأمن السيبراني.)(الصورة بتاريخ ٢٠١٥/٥/٣١ وتجمعني مع د. غازي مشربش ودولة معروف البخيت في المركز المجتمعي المسكوني “الخيمة”)
Comments are closed.