أحد البيان ليوسف بقلم الخوري شوقي كرم


من المؤكد أن مريم أخبرت يوسف بسرّ حملها، نظرًا لعهد الزواج الذي يربطهما، والحبّ القائم بينهما، والصدق الّذي يرافق علاقتهما كبارّين: “إن الذي تحبل به مريم هو قدّوس الله”. ويوسف الصدّيق لم يشكّ في أمر مريم، وإلّا لكان عليه كصديّق وبارّ أن يُشّهر أمر حبلها علنّا لترجم بحسب الشريعة، بل تحيّر أمام سرّ حبلها العجيب، وخشي أن يكون أمرٌ إلهي عظيم، فحزم أمره وقرّر أن ينسحب لأنه خاف من أمر واحد وهو أن يأخذ قرب مريم ويسوع مكانًا يعود لله وحده، مفضّلًا أن يطلّق خِطيّبته مريم سرًّا ليترك لله ان يتمم ما بدأه في مريم.
يوسف هو مثال المؤمن الحقيقي الذي يسمع ما يُنقل إليه من كلمة الله، ويسعى ليفهم على ضوئها سرّ عمل الله وإرادته في قلب أحداث حياتيه اليوميّة، فيتوقف ويفكّر ويتأمل ويصلي ويسأل وينتظر من الله أن يكشف له الحقيقة، أن يعطيه الجواب على تساؤلاته، على مقاصده، على شكوكه، على حاجاته، مُفضّلًا بذلك مشيئة الله ومشروعه على إرادته الخاصة ومشاريعه.
وفيما هو يفكّر في ذلك والطريقة لتحقيقه، تدّخل الله فأرسل ملاكه ليبدّد حيرته بإعلان سرّ حبل مريم وسرّ الطفل الذي تحمله في حشاها. فالله الّذي يريد من الإنسان أن يحبّه ويطيعه، يريد أن يحبّه عن معرفة لا عن إكراه وجهل. لهذا، بكشفه سرّ حبل مريم ليوسف في الحلم، بدّد كلّ حيرة وشك وتساؤل لديه ومنحه بذلك فرصة الجواب الحرّ والمسؤول، ليكون ابنًا له لا مستعبدًا جاهلاً لمشيئته: “لقد عرّفتكم مشيئتي لتكونوا أبناء لا عبيد، لأن العبد يجهل مشيئة سيدّه”.
فقبل يوسف ما طلبه الله منه بحريّة ووعي كاملين. وبإيمان وفرح ومطواعية لا مثيل لها، قام وعمل من دون تردّد للحظة بما دعاه الله إليه بالحلم، وتبنّى مشروع الله له وصار له خادمًا، والربّ رافقه وعضده ليحقّق ما إليه دعاه.
وفي هذا رجاء كلّ واحد منّا، حين يسمع في عمق أعماقه صوت الله يدعوه لأمر ما، فإن الله سيكشف له سرّ دعوته وسيعطيه أن يفهمها. وإن قبل المغامرة معه، فسيمنحه بأن يحقق ما دعي إليه بقوّة النعمة التي ستوهب له.
أيريد حقًّا أن يعرف كلّ منا ما يريده الله منه في أي مرحلة في حياته؟ يوسف يشير علينا بألا نتسرع ونتخذ موقفًا ينبعُ من انفعالٍ بشري، بل لنترك الربّ يُكلّمنا، خالقين الفرص له ليكلّمنا، ولننتظر بصمتٍ ورجاءٍ أن يكشف لنا مشيئته. فالدعوة مشوار طويل مع الرب لا نصل إلى يقينها إلا في نهاية الحياة !!
لهذا، دعوة يوسف لا تقلّ أهميّة عن دعوة مريم، ولا دوره بأقلّ أهمية من دور مريم في تجسد إبن الله. فالطفل يسوع الإنسان الحقّ بحاجة لأب شرعيّ يُعطيه اسمه واسم عائلته، ويؤمن له الحماية، يُربيه، ويقود خطاه في طريق الإيمان ومخافة الله، واكتساب الفضائل والعيش بموجبه في حبّ الخير وتمييز وتحقيقه، ويكون له المثل الذي يقتدي به، إذ لا يمكن للأم أن تكون مثالّا يبني الصبيّ شخصيته وفقه؛ وهو بحاجة لمن يحمي أمّه. ويوسف قبل إختيار الآب السماوي له لهذا الدور العظيم وعاش شراكته الزوجيّة وأبوّته المسؤولة بكل أمانة كما نعرف من خلال إنقاذ يسوع ومريم يوم هرب بهما إلى مصر، ومن ثّم إلى الناصرة، وفي وضع ذاته في خدمتهما حتى مماته.
يسوع لم يأتي ليولد فقط من مريم، ويكون له أمّ فقط. بل جاء ليولد في عيلة ككل الأطفال ويكون له أب، ليقدس هذه العيلة، ويجعلها نواة لعيلته الكبيرة: البشريّة. والرعية عيلة كبيرة وفيها أبناء كثيرين، ولا يمكن أن تتقدم بدون آباء. فأبوة الكاهن لا تكفي لوحدها، بل هي بحاجة لأبوة كلّ رجل. وكلّ رعايانا بحاجة لأن يفعل الرجل دورو الأبوي الروحي فيها.
يا رب! أعطنا بشفاعة القديس يوسف أن نكتشف سرّ اختيارك لنا كمسيحيين، وغاية دعوتنا، لنعيش وَفْقَ ما تريده منّا لخلاصنا وخلاص مَنْ نعيش معهم. لك المجد إلى الأبد.

Comments are closed.