البطريرك العبسي يوجه رسالة الميلاد
إلى السادة الأساقفة الأجلّاء
أعضاء سينودس كنيستنا الروميّة الملكيّة الكاثوليكيّة،
إلى قدس الرؤساء العامّين المحترمين والرئيسات العامّات المحترمات،
إلى أولادنا الكهنة والرهبان والراهبات المحترمين،
إلى أبنائنا وبناتنا المؤمنين المحبوبين.
من الترقّب إلى الشوق
في هذا العام، حيث تَذكّرنا كلُّنا بالصلاة والتفكير استعادةَ الوحدة التي حصلت بين كنيستنا وكنيسة رومة منذ ثلاثمئة عام، في العام 1724، يأتي الميلاد المقدّس والكثيرون منّا في حيرة وتساؤل وترقّب حتّى الحزن والقلق والخوف، من جرّاء الاضطرابات الجارية في منطقتنا، حالُنا حال الناس الذين كانوا قبل ميلاد السيّد المسيح منذ ألفي سنة، قابعين “في الظلمة وظلال الموت”، كما نقول في صلوات العيد، يترقّبون خلاصًا، وما إن رأوا هذا الخلاص في شخص يسوع حتّى هتفوا بلسان الشيخ سمعان الصدّيق قائلين: “الآن تطلق عبدك أيّها السيّد على حسب قولك بسلام فإنّ عينيّ قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته أمام وجوه الشعوب كلّها نورًا ومجدًا”.
هؤلاء الناس الذين في مثل هذه الحال، ما كانوا في الأمس وليسوا اليوم الناسَ الأقوياء أو الأغنياء أو أصحاب السلطان والقرار، بل إنّهم الناس الذين في الفاقة والجوع والعطش والعُري مادّيًّا وروحيًّا ومعنويًّا. القويّ لا يترقّب ولا الغنيّ الذي قال عنه المسيح: “رجلٌ غنيّ يلبس الأرجوان والبَزّ ويتنعّم كلّ يوم مترفّهًا” (لوقا 16: 19)، ولا الذي قال عنه إنّه يقول عن نفسه: “يا نفسُ، إنّ لك خيراتٍ كثيرة مدَّخرةً لسنين كثيرة، فاستريحي وكلي واشربي وتنعّمي” (لوقا12: 19). إنّ الذي يترقّب هو الذي لا يدري هل يأكل ويشرب بعد حين أو لا، هل يجد سقفًا أو غطاء يقيه أو لا، هل تُداوى جروحه أو لا، هل يحيا إلى الغد أو لا، لا يدري إلى من يتطلّع ولا يعرف إلى من يذهب، يتخبّط في الحيرة والقلق والخوف.
نحن كلّنا من دون استثناء نترقّب اليوم خلاصًا. كنّا نتوقّع أن يأتي هذا الخلاص من البشر، من الأرض، بيد أنّنا يومًا بعد يوم صار عندنا يقين أنّ البشر ليس في وسعهم أن يصنعوا ويمنحوا خلاصًا، وإن صنعوا ومنحوا ولو يسيرًا فمشروطًا وهشًّا، لا يريح بل يُبقي على القلق والخوف في ترقّبنا. خلاصنا الكامل والحقيقيّ لن نناله إلّا من الربّ الذي اسمه “يسوع” أي المخلّص كما أعلمنا الملائكة في هذه الليلة المقدّسة: “اليوم وُلد لكم مخلّص” (لوقا 2: 11)، “وتسمّينه يسوع” (لوقا 1: 31). “المخلّص”. لم يقدّم يسوع يومًا ذاته ولا تكلّم عن ذاته على أنّه “ابن الله”، أو من معلّمي بني إسرائيل، أو من الكتبة والفرّيسيّين، أو من القوّاد والزعماء الفاتحين، بل قدّم ذاته على أنّه ذاك الذي إنّما جاء “لكي يخلّص”، يخلّص خصوصًا شعبه من خطاياهم كما ورد في إنجيل متّى في كلامه على ميلاد يسوع (متّى 1: 21)، ليخلّصنا خصوصًا من الترقّب المزمن الذي فينا أعني الخلل الكيانيّ الحاصل فينا من جرّاء الخطيئة والشرّ بشتّى أشكالهما، من الترقّب الذي يسلب منّا سلامنا وفرحنا، يحرمنا من أن نتمتّع بالجمال والانعتاق اللذين نتوق إليهما، من ترقّب لن نشفى منه إلّا بتقرّبنا من الربّ يسوع، إلّا بجعل يسوع يحيا فينا.
إذا ما استعرضنا الإنجيل المقدّس نرى أنّ الربّ يسوع كان بالفعل يذهب أكثر ما يذهب إلى الذين كانوا في حال ترقّب لخلاص على أنواعه: في ملاقاة الشيخ سمعان الذي كان يترقّب خلاص شعبه، في ملاقاة يوحنّا المعمدان الذي كان يترقّب ظهور السيّد الحامل خطايا العالم، في ملاقاة نيقوديموس الذي كان يترقّب تجلّي الحقيقة، في ملاقاة المرضى الذين كانوا على أنواعهم يترقّبون من يشفيهم، إلى المعذّبين بالأرواح الشرّيرة الذين كانوا يترقّبون التحرّر، إلى الخطأة الذين كانوا مثقلين بعبء خطاياهم يترقّبون من يرفعه عن كواهلهم، إلى الرسل الخائفين القابعين في العلّيّة يترقّبون المصير.
هل هذا وَهْمٌ؟ هل هذا هروب من الواقع الأليم كما يزعم البعض؟ هل يسوع المخلّص صورة نرسمها لأنفسنا لكي نهرب من واقع مرير لا نستطيع أن نخلص منه إلّا بالهروب منه؟ هل يسوع المخلّص مخدِّر؟ بتعبير آخر، هل الخلاص ممكن؟ إذا ما راجعنا الإنجيل نرى أنّ يسوع المخلّص ليس وهمًا وأنّ الخلاص ليس هروبًا. كان الناس الذين يشفيهم يسوع من خطاياهم ومن أمراضهم المتنوّعة يُشفون بالفعل وليس بالوهم أو الشعوذة. إنّما كان يلزمهم شيء هو أن نؤمن وأن نتوب. لزكّا التائب قال يسوع “اليوم حصل الخلاص لهذا البيت”، وللمرأة الخاطئة التائبة وغيرها قال: “إيمانك خلّصك”. إن كان ترقّبنا ليسوع يقوم على الإيمان والتوبة وليس على أساس المنفعة فلا بدّ لنا من أن نحصل على ما نترقّب.
في الأيّام والأوضاع الراهنة ينطبق علينا ما قاله السيّد المسيح عن الشعب الذي كان يتبعه: “إنّي أتحنّن على هذا الشعب. إنّهم كخراف ليس لها راعٍ” (مرقس 6: 34). على خلاف يسوع، غالبًا ما يكون الذين في يدهم المسؤوليّة والسلطة لا يكترثون، عن قصد أو غير قصد، عن جهل أو معرفة. عندما تتبرّأ الحكومات من مسؤوليّتها وتتخلّى عن شعوبها لسبب من الأسباب، وما همَّ هنا السببُ، إلى من نلتجئ؟ الجواب عند يسوع: “أعطوهم أنتم ليأكلوا”، “إشفوا المرضى، طهّروا البرص، أقيموا الموتى. مجّانًا أخذتم مجّانًا أعطوا”. هذا ما يقوله لنا جميعًا الربّ يسوع في هذه الأيّام والظروف القاسية. قول يسوع ليس موجّهًا لفئة أو أخرى بل للجميع. علينا جميعًا، إكليروسًا ومؤمنين، علينا جميعًا، نحن شعب الله الواحد وجسد المسيح الواحد، أن نتعاون في هذا السبيل، أن نشبك أيادينا بحيث نتمّم ما أوصى به القدّيس بولس الرسول أهلَ كورنثس بقول: “لستُ أريد أن تكونوا أنتم على ضيق لكي يكون غيرُكم في سعة، بل أن تكون مساواة. ففي الأحوال الحاضرة ستَسُدّ فضالتُكم عوزَهم لكي تَسُدّ يومًا فضالتُهم عوزكم فتحصل المساواة، على ما هو مكتوب: ’الـمُكنِزُ لم يفضُل له والـمُقِلّ لم ينقص عنه‘” (2كور 8: 13-15).
في الميلاد لم يكن يسوع وحده. كان إلى جانبه مريم ويوسف والرعاة والمجوس. جميعهم شاركوا في إعلان الخلاص كلٌّ على طريقته وقدرته. نحن كذلك. هذا العمل المشترك الذي يُسهم فيه كلّ شعب الله، من كلّ قبيلة ولسان وشعب وأمّة تعيش في سياقات وثقافات مختلفة، هو ما سمّاه قداسةُ البابا فرنسيس “السينودسيّة”، داعيًا إلى التفكير والبحث والتأمّل فيها وإلى تطبيقها في الكنيسة على كلّ المستويات ولاسيّما مستوى الفقراء والمهمّشين والمنبوذين: “إنّ الكنيسة مدعوّة إلى أن تكون فقيرة مع الفقراء الذين يؤلّفون في الغالب معظم المؤمنين وإلى أن تصغي إليهم” (خلاصة السينودس، رقم 19). “إنّ تثبيت أنظارنا إلى الرب لا يبعدنا عن مآسي التاريخ إنّما يفتح عيوننا فنتعرّف على الألم الذي يحيط بنا ويؤثّر فينا: وجوه الأطفال المذعورين من الحرب، نحيب الأمّهات، الأحلام المتكسّرة لكثيرٍ من الشباب، اللاجئون الذين يواجهون أسفاراً رهيبة، ضحايا التغيّرات المناخيّة واللاعدالة الاجتماعيّة، حروبٌ كثيرةٌ لا تزال تتسبّب بالموت والدمار والرغبة بالانتقام وفقدان الضمير. ندين منطق العنف والحقد والانتقام. نعمل معاً من أجل تغليب منطق الحوار والأخوّة والمصالحة. السلام الحقيقي والدائم ممكن وبإمكاننا أن نبنيه معاً” (خلاصة السينودس، رقم 2).
نحن إذن ماذا نترقّب؟ يجيب البعض، وقد يكون عددهم كبيرًا، بتنا لا نترقّب شيئًا، من شدّة التعب واليأس والواقع المرير، نعيش يومًا بيوم بل ساعة بساعة مستسلمين للقدر. أبناؤنا على الأخصّ صار حلمهم أن يتركوا أوطانهم لأنّهم لا يحصلون فيها، في معظم الحالات، على أدنى حقوقهم ومتطلّبات عيشهم الكريم حتّى الضروريّ. تحوّل ترقّب أبنائنا إلى متى يرحلون وكيف يرحلون وإلى أين يرحلون وما عاد في أيدينا وسيلة لإقناعهم بالعدول عن ذلك.
لكن، هل يستطيع المرء أن يعيش بالفعل من دون ترقّب ولو كان هذا الترقّب مزعجًا؟ الجواب عند يسوع في مثل العشر عذارى اللواتي كنّ جميعًا يترقّبن الشيء نفسه، مجيءَ العريس عينه. خمس كانت خاتمة ترقّبهنّ فرحة وخمس كانت حزينة. السبب ليس في ما أو في من نترقّبه بل فينا نحن حين يضعف ترقّبنا. لذلك شبّه الله في الكتاب المقدّس الترقّب الذي علينا أن نتحلّى به حين نترقّبه بترقّب أناس لا يمكنهم أن يُخطئوا، أن يَغفلوا ولو لحظة لأنّ غفلتهم تكلّفهم حياتهم وحياة غيرهم: “انتظار الرقباء للصبح والحرّاس للفجر فلننتظر الربّ”.
الترقّب يتحوّل إلى قلق وحزن وتعب عندما يكون لأشياء فارغة أو شرّيرة. هذا ما حصل لهيرودس الذي كان يترقّب أن يقتل الطفل يسوع. أمّا إذا كان الترقّب لأشيّاء جميلة مثلِ الخلاص الذي وُلد لنا بميلاد المسيح فإنّه يتحوّل إلى شوق ومن ثمّ إلى فرح وسلام وتمجيد: “المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرّة”. يدعونا الميلاد إلى أن نقوّي ترقّبنا الجميل وأن نحوّله إلى شوق مهما كلّفنا، إلى أن نبقى على الدوام ندغدغ أحلامنا، إلى أن نستمرّ في التشمير عن سواعدنا، إلى أن نتابع شحذ أفكارنا. لم يُتعب طولُ الطريق وخطره المجوسَ، ولا طول السهر وبرده الرعاة، ولا طول العمر والشيخوخة سمعان، ولا ثقل الخطيئة زكّا العشّار، ولا ظلام الليل الأعمى على حافة الطريق. جميعهم وصلوا إلى غاية ترقّبهم وحصلوا على الفرح ومجّدوا الله. وماذا نقول عن العذراء وعن يوسف؟ ميلاد السيّد المسيح يؤكّد لنا أنّنا لا بدّ حاصلون على ما نترقّب من خلاص، على الخلاص الذي نشتاق إليه. يبقى أن يكون لنا إيمانٌ ولو قدْرَ حبّة الخردل وتوبةٌ ولو قدر توبة العشّار.
بهذه العاطفة، بكلّ ما فينا من شوق، فلنهتف إذن مع الكنيسة مرنّمين: “هلمّ بنا لنشاهد َكيف أنّ بيتَ لحمَ فتحت عدنًا، ونجدَ النعيم في مكان الخفاء. هلمّ لنجتنيَ محاسن الفردوس في داخل المغارة، فإنّه قد ظهر هناك أصلٌ بغير سقاية يتفرّع منه الغفران. هناك وُجدت بئر غير محفورة قد اشتاق داودُ أن يرتشف منها قديمًا. هناك البتولُ وَلدت طفلًا فسكّن للحال ظمأَ آدم ودواد. فلنتقدّم إليه إذًا، فإنّه قد وُلِد صبيٌّ جديد، الإلهُ الذي قبل الدهور” (صلاة سحر الميلاد، البيت).
ميلاد مقدّس ومجيد.
Comments are closed.