عظة صاحب الغبطة البطريرك العبسي في القداس الإلهي الذي أقيم لراحة نفس قداسة البابا فرنسيس
احتفل صاحب الغبطة البطريرك يوسف العبسي بالليتورجيا الإلهية المقدسة
لراحة نفس البابا فرنسيس في كاتدرائية سيدة النياح دمشق- حارة الزيتون
حيث عاونه صاحب السيادة المطران نيقولاس أنتيبا وقدس الأرشمندريت أنطون مصلح النائب البطريركي العام في دمشق وكهنة الأبرشية الدمشقية وبحضور لفيف من أساقفة دمشق ووفود رسمية ودبلوماسية وبحضور شعبي واسع.
وجاء في عظة صاحب الغبطة
عظة صاحب الغبطة البطريرك يوسف
قدّاس لراحة نفس قداسة البابا فرنسيس الراحل
دمشق، الكاتدرائيّة 2 أيّار 2025
مقدّمة
“تبارك اللهُ أبو ربّنا يسوع المسيح، أبو المراحم وإلهُ كلّ تعزية، الذي يعزّينا في كلّ ضيقة لنا كي نستطيع بالتعزية التي نُصيبها نحن من الله أن نعزّي الذين هم في ضيقة” (2كور1: 3-4). بهذه الكلمات التي خاطب بها القدّيسُ الرسول بولس أهل كورنثس نعزّي نحن اليوم، أيّها الأحبّاء، بعضُنا بعضًا بانتقال قداسة البابا فرنسيس إلى الأخدار السماويّة، رافعين من أجل راحة نفسه هذه الليترجيّا الإلهيّة التي نحن محتفلون بها. وتَزيد تعزيتُنا تعزيةً أنّ قداسته، على درب السيّد المسيح الذي تألّم ومات ثمّ قام، أمضى ما يقارب الشهرين من الألم وانتقل من ثمّ إلى حضن الآب في صباح اليوم الثاني لقيامة الربّ يسوع من الأموات، قائمًا معه ومرنّمًا له “المسيح قام من بين الأموات ووطئ الموت بالموت ووهب الحياة للذين في القبور”.
لم يكن البابا فرنسيس بابا تقليديًّا لا في خدمته ولا في أفكاره ولا في نمط حياته. لكن في جميع هذه كان من دون شكّ من رجال الله الذين سعوا إلى تمييز إرادة الله وتتميمها بالإصغاء إلى الروح القدس، مستنبطًا بذلك نهجًا غير عاديّ أدركه البعض ولم يدركه البعض الآخر، إنّما نال احترام الجميع إذ رأوا في قداسته رجلَ كنيسة، أبًا ورئيسًا، أحبّ الجميع وأراد أن يجمعهم تحت جناحي الكنيسة كما أراد السيّد المسيح أن يفعل حين قال مخاطبًا القدس: “كم مرّةٍ أردت أن أجمع بنيك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها!” (متّى23: 37). وُفِّقَ في بعض الأمور ولم يوفَّقْ في البعض الآخر، لأسباب متنوّعة، إلّا أنّه، بالرغم من ذلك، وُفِّق بالعموم في دفع الكنيسة إلى الأمام وفي ضخّ دم جديد فيها وفي فتح آفاق جديدة ظهر تأثيرها الإيجابيّ في العدد الكبير من المسؤولين المدنيّين والدينيّين الذين توافدوا لحضور جنازته ومن الجموع الغفيرة من المؤمنين الذين تقاطروا من زوايا الأرض كلّها لإلقاء النظرة الأخيرة عليه ووداعه. قيل الكثير عن البابا فرنسيس وسوف يقال. في هذا المقام حيث الذي يفيه حتمًا حقّه أودّ أن أتوقّف بإيجاز على بعض الملامح من ذلك الوجه الذي جذب إليه أناسًا من مختلف الانتماءات والشخصيّات إذ قد رأوا فيه شخصًا يخاطبهم مباشرة وفي بعض الأحيان من خارج ما كانوا معتادينه.
الخدمة البطرسيّة
إنّ صورة السيّد المسيح التي انطبعت في البابا فرنسيس هي الصورة التي رسمها يسوع نفسه حين عرّف بنفسه لتلاميذه قائلًا: “من أراد أن يكون فيكم كبيرًا فليكن لكم خادمًا … إنّ ابن البشر لم يأتِ ليُخدَم بل ليَخدُم” (متّى 20: 26-28). إنّها صورة الخادم. إنّها الصورة التي أراد أن يلمّعها بالرجوع إلى الإنجيل مبتعدًا عن البذخ والترف وتغطية الفساد، جاعلًا خدمته في الإدارة أقرب إلى رئيس دير منه إلى رئيس بلد هو الفاتيكان. منذ اللحظة الأولى عرف كيف يحقّق هذا النهج سواءٌ باختياره لاسم فرنسيس وارتباطه بالفقر أو بنقل مقرّ إقامته أو بقربه من المؤمنين وتعاطيه المباشر معهم وليس عبر الإكليروس والدوائر الفاتيكانيّة فقط. كان على الأخصّ اختياره لاسم “فرنسيس”، فرنسيس الأسّيزي، بمثابة إعلان واضحٍ ومباشر عن برنامج حبريّته ونمطها. تحلّى بمزاجه وطريقته في قيادة القطيع وتطبّعَ بأسلوبه في إدارة الكنيسة، عبر تواصله المباشر مع الأشخاص والشعوب، ساعيًا إلى أن يكون قريبًا من الجميع، خاصّة المتألّمين والمهمّشين، باذلًا ذاته دونما تردّد، لاسيّما لفقراء الأرض والمنبوذين والمهجّرين.
بهذا النهج المطبوع بالمحبّة خدم البابا فرنسيس الكنيسة والبشريّة. عاش الفقر كحرّية، والرحمة كقوّة، والحوار كجسر. لم يبحث عن المجد، بل عن وجوه الفقراء، وجراح المهاجرين، وصرخات الشعوب المتألّمة. في كلّ بقاع الأرض، حمل رسالة الأخوّة والمصالحة، ووضع نفسه في الصفوف الأولى للمدافعين عن كرامة الإنسان، من رحم أمّه حتّى النفس الأخير.
كان نهجه كذلك مبنيًّا على قناعته بأنّ الكنيسة بيتٌ للجميع، بيتٌ أبوابه مفتوحة دومًا. استخدم كثيرًا صورة “الكنيسة كمستشفًى ميدانيّ”، بعد معركة خلّفت العديد من الجرحى؛ كنيسةٍ عازمة على معالجة قضايا الناس وآلام العالم؛ كنيسةٍ تحنو وتنحني على كلّ إنسان، مهما كان إيمانه أو وضعه، لتضمّد جراحه. ناهيكَ عن مواقفَ لا تُحصى في الدفاع عن اللاجئين والنازحين ومَن إليهم.
التجديد
وضع كثيرون الأب الأقدس فرنسيس في خانة الإصلاحيّين بإزاء التقليديّين، لكنّ نضاله ما كان ما بين هذين التيّارين بل كان بوجه من ابتعدوا عن روح الإنجيل من هذا الطرف أو ذلك، وكان همّه العودةَ إلى روح الإنجيل. كان التجديد بالنسبة إليه عودةً إلى نضارة الإنجيل. من هنا أراد فتح الأبواب للجميع وكانت الكلمة المفتاحُ التي يردّدها “الجميع، الجميع، الجميع”. فدعا لذلك الكنيسةَ إلى الخروج، إلى الرسالة، إلى أن تفتح أبوابها، وتذهبَ إلى “الأطراف”، حيث الحاجة إلى النور أعظم. وشدّد على أنّنا إخوة في بيت مشترك، وأنّ الخليقة أمانةٌ بين أيدينا، وأنّ السلام ليس أمنية، بل عمل ومسؤوليّة. ومن أبرز ما عمله البابا فرنسيس في باب التجديد هو من دون شكّ السينودس الرومانيّ الذي امتدّ على العامين الماضيين والذي خصّصه للسينودسيّة في الكنيسة تحت عنوان “السينودسيّة: شراكة ومشاركة ورسالة”، أعني أن يشارك جميع المسيحيّين، من كلّ الفئات، في الحياة الكنسيّة على كلّ المستويات. كان ذلك بمثابة فتح نرجو أن يؤتي ثماره المرجوّة وأن يكون عامل تجديد حقيقيٍّ في الكنيسة.
كان الأب الأقدس فرنسيس رجلاً من الناس، عاش من أجل الناس، كلّ الناس. لم يغلق بابه قطُّ أمام أحد، بل جعل من الكنيسة “مستشفى ميدانيًّا”، كما أسلفنا، يحمل الشفاء للقلوب المجروحة، ويضمّد جراح الإنسانيّة، ويعانق آلام الشعوب، مهما ابتعدت أو تاهت. من هنا كانت دعوته إلى تحويل العالم إلى خليّة تسبّح الله وتسير نحوه في رحلة حجّ وتقدّمُ له العالم ليس فقط كما تسلّمته جميلًا بل أيضًا مقدّسًا. شارك البابا فرنسيس بصدق في قلق عصر العولمة وآلامه وآماله. وبذل جُهده كي يعزّي ويشجّع، برسالة قادرة على ملامسة القلوب مباشرة. كان يتمتّع بكاريزما الاستقبال والإصغاء، يوقظ الطاقاتِ الأخلاقيّةَ والروحيّة من خلال تناغمه مع حساسية إنسان اليوم. من أجل البلوغ إلى ذلك كان المبدأُ المرشدُ لحبريّته هو أولويّةَ التبشير بنَفَس إرساليّ واضح بحيث ينتشر فرح الإنجيل، على ما يدلّ عليه عنوان إرشاده الرسوليّ الأوّل “فرح الإنجيل” Evangelii Gaudium فرحٌ يملأ القلوب ثقةً ورجاءً لمن يسلّم ذاته لله.
وفي رسالته العامة Laudato si’، توجّه إلى البشر أجمعين منبّهًا إلى واجباتنا المشتركة تجاه بيتنا المشترك: “لا أحد ينجو وحده”. أمّا الحروب المروّعة لا سيّما في السنوات الأخيرة، بكلّ ما فيها من فظاعات وقتل ودمار، فلم يتوانَ البابا عن رفع صوته في وجهها مناديًا بالسلام وداعيًا إلى التعقّل والحوار لاستنباط حلول ممكنة، لأنّ الحرب، كما كان يقول، ليست إلّا موتًا، ودمارًا للمنازل والمستشفيات والمدارس.
الشرق الأوسط
كان لبلادنا العربيّة مكانةٌ خاصّة في قلب البابا فرنسيس، فقد زارها أكثر من مرّة ومنها أَطلق الأخوّةَ الإنسانيّة لقناعته بأنّ المسيحيّة هي انفتاح وحبّ للآخر. في مواجهة ما سمّاه “ثقافة الإقصاء”، دعا إلى “ثقافة اللقاء” و”ثقافة التضامن”. كان موضوع الأخوّة حاضرًا بقوّة في حَبريّته، لاسيّما في رسالته العامّة “كلّنا إخوة” Fratelli tutti، حيث عبّر عن تطلّعه إلى أخوّة عالميّة نابعة من أنّنا جميعًا أبناء للآب السماويّ. في 2019، خلال زيارته إلى الإمارات العربيّة المتّحدة، وقّع، مع سماحة شيخ الأزهر السيّد الطيّب، وثيقة “الأخوّة الإنسانيّة من أجل السلام والعيش المشترك”، مؤكّدًا أبوّة الله الجامعة. وقد عاد فذكّر بهذه الأخوّة في هذا العام في رسالته إلى المسلمين للتهنئة بعيد الفطر السعيد قائلًا: “إنّ تحدّينا [نحن المسيحيّين والمسلمين] هو أن نبني، بفضل الحوار، مستقبلًا مشتركًا قائمًا على الأخوّة. لا نريد أن نعيش جنبًا إلى جنب فقط. نريد أن نعيش معًا باحترام صادق متبادَل. ومن ثمّ فالسؤال الذي علينا أن نطرحه على أنفسنا هو: هل نريد أن نكون متعاونين من أجل عالم أفضل، من أجل أن نعيش عيشًا أفضل أم أن نكون إخوة حقيقيّين فنشهدَ معًا على صداقة الله لجميع الناس؟”. “إنّ عالمنا متعطّش إلى الأخوّة والحوار الحقيقيّ. المسيحيّون والمسلمون قادرون معًا أن يكونوا شهودًا للرجاء بأنّ الصداقة ممكنة بالرغم من ثقل التاريخ والإيديولوجيّات التي تأسِر، شهودًا للرجاء الذي ليس هو تفاؤلًا بل فضيلةٌ مترسّخة في الإيمان بالله”.
من بين رحلات البابا فرنسيس السبع والأربعين، تبقى زيارته إلى العراق عام 2021 محفورة في الذاكرة. كانت زيارة محفوفة بالمخاطر، ولكنْ بلسمًا لجراح الشعب العراقيّ الذي كان يتألّم من أهوال الحرب. كانت كذلك خطوة كبيرة على طريق الحوار بين الأديان، وهو محور أساسيّ في عمل قداسته الرعويّ. هناك في العراق، حيث الأرض مثقلة بالدموع، وفي ليسبوس حيث البحر يبتلع أجساد الهاربين، وفي أفريقيا وآسيا حيث الجوع يصرخ، كان صوته حاضرًا وكان حضوره علامة رجاء. وقف بشكل صريح مع المهجّرين وطلب من الكنيسة أن تفتح الأبواب لهم. وهل ننسى كم كان واضحًا في ندائه من أجل وقف الحرب في غزّة؟ من الضروريّ في هذا الصدد أن نشير ونؤكّد أنّ دعوته إلى السلام ما كانت عن سذاجة، بل كانت نابعةً من رسالة المسيح، مبنيّةً على الإنجيل. فماذا كان يمكن أن يقول؟ إنّ الله مع هذا الطرف دون ذاك، كما قيل عبر قرون؟ اتّهمه البعض بأنّه لم يكن بابا سياسيًّا، لكنّه كان هو نفسه حريصًا على ألّا يكون كذلك. السياسيّ يدير الصراعات، أمّا الدينيّ فَيَتناول جذورها.
خاتمة
من يُنعمِ النظر في شخصيّة البابا الراحل فرنسيس يتّضحْ له أنّها كانت شخصيّة مَفصليّة أثارت تساؤلاتٍ عميقة لدى الكثيرين من داخل الكنيسة ومن خارجها، وأثارت خصوصًا التساؤلَ عن مستقبل الكنيسة إذ إنّ البابا هو خليفة الرسول بطرس في رومة، الذي قال له السيّد “أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة سأبني كنيستي”. لكنّ السيّد المسيح أردف قائلًا: “إنّ أبواب الجحيم لن تقوى عليها” لأنّها، كما يقول الرسول بولس لأهل أفسس، وإن كانت “بناءً أساسُه الرسل والأنبياء” فإنّ “رأسَ الزاوية هو المسيحُ يسوع نفسُه الذي فيه يُنسَق البناءُ كلّه ويرتفع هيكلًا مقدّسًا في الربّ” (أف2: 20-21). من أجل ذلك لا خوف على الكنيسة، ونحن اليوم كلّنا رجاء بأنّ راعي الرعاة، يسوع المسيح، سوف يبعث إلى كنيسته راعيًا جديدًا، بابا جديدًا، يقودها إلى برّ الأمان، إلى الميناء الهادي، حَبرًا راعيًا من إلهام الروح القدس، روحِ الحقّ الذي يرشد كنيسته إلى الحقيقة كلّها، كما قال لنا الربّ يسوع (يوحنّا16: 13). ففيما نصلّي اليوم من أجل راحة نفس البابا فرنسيس نصلّي أيضًا برجاء كبير من أجل أن يبعث الله في كنيسته بابا على حسب قلب يسوع.
باسم سعادة السفير الباباويّ في سوريا، نيافة الكردينال ماريو زيناريي، وباسم مجلس رؤساء الكنائس الكاثوليكيّة في سورية، وباسمي الشخصيّ أشكركم جميعًا على مشاركتكم في هذه الليترجيّا، سائلًا الله أن يبلسم قلوبنا بالتعزية التي من عنده، وراجيًا للمنتقل البابا فرنسيس الراحة الأبديّة، ومرنّمًا معكم: “فليكن ذكره مؤبّدًا”. آمين.
Comments are closed.