الروح القدس وقيادة الكنيسة بقلم القس سامر عازر

الروح القدس ليس مجرد قوة، بل هو شخص الله الساكن في كنيسته، والعامل فيها.

ففي قلب دعوة الكنيسة ورسالتها يقف روح الله القدس كالقوة الحيّة التي أسس الكنيسة ويقودها ويوحدها ويذكّرها برسالتها. حين قال الرب يسوع لتلاميذه: “أما متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق” (يوحنا ١٦: ١٣)، كان يؤسّس لمرحلة جديدة من علاقة الله بشعبه: مرحلة يقود فيها الروح القدس الكنيسة، لا من بعيد، بل من الداخل، كقائد حاضر وفاعل.

فالكنيسة لم تولد بمحض قرار بشري ولا تتأسس على نظام إداري أو هيكل تنظيمي، بل وُلدت الكنيسة بالروح يوم الخمسين/العنصرة، حين حلّ الروح القدس على التلاميذ، فامتلأوا قوة وجرأة وخرجوا ليشهدوا لإنجيل المسيح بكُّل اللغات. منذ تلك اللحظة، بدأت الكنيسة مسيرتَها، لا كمجموعة منظمة فحسب، بل كجسد حي نابض بحضور الروح القدس. فالروح هو الذي أحياها، وحوّل التلاميذ من خائفين مختبئين إلى شهود أمناء مستعدين للموت من أجل الحق الإلهي.

وقيادة الروح القدس للكنيسة ليست حدثًا من الماضي، بل هي واقع دائم وحيوي. ففي سفر أعمال الرسل، نقرأ كيف قال الروح للكنيسة في أنطاكية: “افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه” (أعمال ١٣: ٢). فحتى أول إرسالية تبشيرية في تاريخ الكنيسة لم تكن نتيجة تخطيط بشري، بل ثمرة إنصات لصوت الروح. هذه الحقيقة تدعونا اليوم، في زمن مليء بالتحديات والتغيّرات، أن نعيدَ الاعتبار لهذه القيادة الإلهية، فالكنيسة لا تسير بالبشر وحدهم، مهما كانت كفاءاتهم، بل بالروح الذي يعطي البصيرة ويوجه الخُطى ويمنح الشجاعة.

ويبقى الروح القدس العامل الأول في وحدة الكنيسة. ليست الوحدة الكنسية وحدة شكل أو سلطة، بل شركة حقيقية تنبع من وحدة الروح، كما كتب بولس: “اجتهدوا أن تحفظوا وحدانية الروح برباط السلام” (أفسس ٤: ٣). حيث يُعطى الروح مكانه، تسود المحبة والتواضع، وتُشفى الجراح، ويُبنى الجسد الواحد رغم تنوع أعضائه.

والروح أيضًا هو المعلّم والمذكّر. من دونه تبقى النصوص المقدسة بلا حياة، والتعليم الكنسي مجرد كلمات. لكن كما وعد يسوع: “الروح القدس يعلِّمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم” (يوحنا ١٤: ٢٦). ذلك فالروح ينير لنا كلمات الإنجيل المقدس ويجعله حيًّا في قلوب المؤمنين. وبذلك، فكل قراءة للكتاب المقدس وكل وعظ وكل تعليم لا يستمد نوره من الروح يبقى جافًا لا يثمر في الحياة.

وكما أن الروح القدس هو الذي يوزع المواهب على الكنيسة لبنيان الجسد الواحد، فهو لا يمنحها بحسب الاستحقاق، بل بحسب مشيئة الله، لأجل الخدمة والمحبة. وقد كتب الرسول بولس: “هذه كلها يعملها الروح الواحد بعينه، قاسمًا لكل واحد بمفرده كما يشاء” (١ كورنثوس ١٢: ١١). فالموهبة ليست أداة للتميّز، بل دعوة للمسؤولية. ومن دون عمل الروح، تبقى المواهب مجرد مهارات بشرية.

اليوم، وفي عالم يواجه الكنيسة بتحديات روحية وفكرية وأخلاقية، نحن بأمسّ الحاجة لأن نعود إلى حضور الروح، لا كشعار، بل كقيادة فعليّة للكنيسة. فالروح القدس ليس مجرد قوة، بل هو شخص الله الساكن في كنيسته، ويدعوها على الدوام للتوبة، ويذكّرها برسالتها، ويرسلها لتكون نورًا في العالم. لذلك علينا دوما أن نسأل أنفسنا، هل نعطي الروح القدس دوره في قيادتنا للكنيسة أم أننا نقودها بمنأى عن الروح وتوجيهه؟

Comments are closed.