أحد الثالوث الأقدس بقلم الخوري شوقي كرم
“اذْهَبُوا إِذًا فَتَلْمِذُوا كُلَّ ٱلأُمَم، وعَمِّدُوهُم بِٱسْمِ ٱلآبِ وٱلٱبْنِ وٱلرُّوحِ ٱلقُدُس، وعَلِّمُوهُم أَنْ يَحْفَظُوا كُلَّ مَا أَوْصَيْتُكُم بِهِ. وهَا أَنَا مَعَكُم كُلَّ ٱلأَيَّامِ إِلى نِهَايَةِ ٱلعَالَم.” (متى 18: 19-20).
نُعيّد اليوم عيد الله الثالوث الأقدس، الله الآب والابن والروح القدس كما نؤمن، وكما نعلن في قانون الإيمان. في الواقع، لقد تربينا على الاعتراف والإيمان بأن الله واحد وثالوث وعلى إعلان هذا الإيمان. ربّما البعض من بيننا حاول أن يبحث ليفهم سرّ الله الثالوث ويدرك تمايزه كمسيحي بهذا الإيمان عن إيمان باقي الديانات بالله، ولكن الأكثريّة بيننا مسلّمة بالأمر دون السؤال عن حقيقة هذا المُعتقد اللاهوتيّ، وعن أهميّته لحياته.
ولهذا، أحبّ أن أتأمل معكم في حقيقة هذا السرّ، سر الله الأحد الثالوث، انطلاقًا من سؤالين: هل كانت تستحق هذه العقيدة، عقيدة الله الإله الواحد الثالوث، كل هذه المجامع المسكونية في الألفيّة الأولى للمسيحيّة، وما ولدته من انقسامات وحروب داخلية بين الكنائس المسيحيّة، واضطهادات خارجيّة، بخاصة من الإسلام، أودت وتودي بحياة الكثيرين من المسيحيين؟ وما الّذي يغيّره في حقيقة الله وفي حياتنا إن قلنا إن الله أحد لا شريك له، أو إن قلنا إن الله أحد وثالوث؟
في الواقع، ما يميّز الإيمان المسيحي والمسيحيين في هوُيّتهم ورسالتهم هو الإيمان بالله الثالوث. وهذا التمايز بالإيمان ليس لتمييز الذات عن الآخرين والتفاخر عليهم، ولا للتباهي والتبجح والتناحر والتحدّي، ولا للتمسك بتعويذة سحريّة تنجّينا من المصائب والشرور (رسم الصليب على أجسادنا وممتلكاتنا). بل هو حقيقة مُحقّة تستحق أن نبني عليها إيماننا، لأنها ليست ثمرة جهد فكريّ فلسفيّ بشريّ، بل ثمرة وحي إلهيّ، كُشف وأُعلن لنا بيسوع المسيح، يسوع ابن الله الوحيد، الّذي تجسّد ليكشف للبشريّة سِرّ الله، لئلا تبقى هذه البشريّة غارقة في البحث المُضنِى عن معرفة حقيقة الله في جوهره وعلاقته بالإنسان.
فالفرق كبير في الإيمان حين نبني إيماننا على شهادة بشر ادعوا أنهم رأوا الله وكلّمهم، مهما سمى شأنهم، أو نبنيه على يسوع المسيح الشاهد الوحيد على الله، لأنه هو كائن في الله قبل أن يصير إنسان، عارف بالله وبتدبيره وفكره، عامل بعمل الله وبمشيئته، لأنه رآه ويشاركه جوهره وحياته لأنه إله من إله، ونور من نور، ومساوي له في الجوهر: “في البدء كان الكلمة، والكلمة كانت والله، وكانت الكلمة الله” (يوحنا 1: 1-3)؛ من رآني رأى الآب؛ من قبلني قبل الّذي أرسلني، وصار لنا مُقامًا؛ إلخ.
هذا الإيمان المبني على شهادة الشاهد الإلهي الأمين، يسوع المسيح ابن الله الحيّ، يُغيير الكثير الكثير في حياتنا، لأنه يُعطينا أن نكتشف أصل إنسانيتنا ووجودنا وغايته، وأصل التاريخ وغايته. نفهم سرّ إنسانيتنا بقدر ما ندرك بأن خلقنا على صورة الله كمثاله، الله الثالوث، الله المحبّة، الله الشركة بالحب بين الآب والابن والروح القدس، خلقنا على صورة الابن يسوع لنكون أبناء مثل الابن، وأشخاص لا أفراد مثل الأشخاص في الثالوث، أشخاص متمايزين بفرادتنا، مُعدِّين لندخل في شركة حبّ وحياة مع الله والقريب؛ شركة حبّ على مثال شركة حبّ الثالوث بما فيها من عطاء للذات متبادل، يوحّدنا بعضنا ببعض لنكون معًا عائلة الله، فتتجلّى حقيقة الله الثالوث المحبّة في شركة المحبّة التي نعيش في ما بيننا، بفرح العطاء والتعاون والتضامن والاتحاد واحترام التمايز والانفتاح على التبادل وقبول التكامل؛ شركة حبّ وحدها قادرة أن تعطينا بأن ننمو ونتطور بالإنسانيّة ونجد معنًى لحياتنا، وننعم بالفرح والسلام الحقيقيين، ونبني معًا حضارة المحبّة، كطريق وحيد لبناء بشريّة أكثر إنسانيّة وعدالة وسلام، ولخلق مجتمع يليق بالإنسان.
فالشكر لله الثالوث المحبّة الذي أوجدنا كثمرة حبّه، وأعطانا حياة من حياته مطبوعة بالحبّ، ودعانا لنحبّ ونشترك في حياته، وبقي أمينًا لنا، فلم يتأخر ولن يتأخر أن يرسل ابنه ويقدّمه كفارّة عن خطايانا في كلّ مرّة ننفصل عنه، ليحرّرنا من عبوديّة وتسلط الشرّ علينا، ويغمرنا بروحه القدوس روح الحبّ لينقّي ويُطهّر حبّنا، ويقودنا دومًا في طريق الحبّ، لنعيش شركة الحبّ مع الآخر وننعم بالشركة بحبّه الأبدي. له المجد من الأن وإلى الأبد.
Comments are closed.