نعمة، ومحبة، وشركة: سّرُ حياةِ اللهِ في ذاتِه(في عيد الثالوث الأقدس) بقلم القس سامر عازر
يختم بولس الرسول نهايةَ رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس بكلمات البَركة التي أصبحت تتردد على شفاه المؤمنين في الليتورجيا الكنسية: “نعمة ربنا يسوع المسيح، ومحبة الله، وشركة الروح القدس مع جميعكم. آمين.” (٢كو ١٤:١٣).
هذه البَركة هي إعلان إيماني عميق عن حقيقة الله الواحد في الجوهر، المثلث الأقانيم، كما أعلَن ذاته في العهد الجديد كآبٍ محب، وابنٍ فادٍ، وروحَ قدسٍ محيي. كلمة “أقنوم” هي كلمة سريانية تعني الذات المتميّزة في الثالوث الأقدس: الآب (أقنوم المحبة الخالقة)، الإبن (أقنوم الكلمة المتجسد)، الروح القدس (أقنوم الحياة والقداسة) والثلاثة واحد في الجوهر.
فحين يقول بولس “نعمة ربنا يسوع المسيح”، فهو يستحضر سرّ التجسد والفداء. في يسوع، ظهرت نعمة الله بصورة ملموسة، قريبة من الإنسان، لا كقوة من بعيد. هذه النعمة ليست عطية عابرة، بل هي عمل محبة أبدية خرجت من قلب الله لتدخل تاريخ البشر وتحوّله. والمسيح، كلمة الله المتجسد هو الابن بالطاعة، الذي سُرَّت مشيئةُ الآب به “هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت”، ولا يعمل منفصلًا عن الآب، بل هو مرآة محبته وتَجلّي رحمته. وهكذا تقودنا نعمةُ الإبن دومًا إلى محبة الآب السماوي.
وعندما ننتقل إلى “محبة الله”، ندرك أن هذه المحبة هي أصل كل شيء لأنَّ “الله محبة” . الله لم يخلق العالم لأنه بحاجة إليه، بل لأنَّه محبة، وهذه المحبة ليست نظرية أو مجرد مشاعر، بل فعل حرّ اختار أن يدخل في علاقة مع البشر، أن يعطي، أن يبذل، أن يغفر. ومحبة الله الآب تجلّت بسّر التجسد الإلهي. وفي هذا، نرى أن كل ما يفعله الله ينبع من قلب محب، أبوي، أمين. في محبته، يقبلنا كما نحن، ويدعونا لنكون كما هو.
لكن هذه المحبة والنعمة لا تصل إلينا كذكرى ماضية فقط، بل تُعاش اليوم، وتُسكب في قلوبنا من خلال “شَركة الروح القدس”. الروح ليس مجرد تأثير روحي داخلي، بل هو الحضور الإلهي الفعّال فينا وبيننا، فهو الذي يفتح قلوبنا لنفهم نعمةَ المسيح، ويُشعِلَ فينا نار محبة الآب، ويجمعُنا ككنيسة، كجسد واحد. بواسطة الروح القدس نختبر الشركة المقدسة مع بعضنا البعض ومع الله، نتقاسم الإيمان والرجاء والخدمة والحياة.
وهكذا، تَكشفُ كلمات هذه البَركة في عُمقها عن سرِّ مفهوم الثالوث الأقدس: إله واحد في ثلاثة أقانيم، أي في تميّزه في محبته وفي نعمته المخلّصة وفي تقديسه لحياتنا. الثالوث الأقدس ليس لغزًا حسابيًا أو مفهومًا فلسفيًا مجردًا، بل هو سِرُّ حياةِ الله في ذاته، وسِرُّ حضوره فينا. لذلك، فإننا نؤمن بإله هو علاقة، هو حب متبادل، هو عطاء لا ينضب. وحين ندخل في هذه العلاقة، لا نكتفي بمعرفة الله، بل نعيش فيه ومنه وله.
في عيد الثالوث الأقدس، لسنا مدعوين لفهم الله بعقولنا المحدودة، بل للإنفتاح على سرّه المعلنرفي العهد الجديد، وللدخول في هذه البَركة التي تهبنا النعمة، وتغمرنا بالمحبة، وتربطنا بالشركة الإلهية. فليكن هذا العيد فرصة لنفتح قلوبنا لهذه الحقيقة التي تغيّر الكيان فنختبرَ محبةَ الله ونعمتَه وندخلَ في شركةٍ المقدسة معه.
يقول القديس باسيليوس الكبير أحد أعمدة اللاهوت في الكنيسة الشرقية:
“الآب هو المَصدر، والإبن هو الصُورة، والروح القدس هو الرِفقة؛ فالثالوث ليس مقسومًا في الطبيعة، بل هو واحد في الكرامة والمجد، واتحادهم هو اتحاد المحبة.”
ولتقريب المعنى، يُشبَّه الثالوث بالشمس:القرص (الآب)، النور (الابن)،الحرارة (الروح القدس)، هي ثلاثة مظاهر متميزة لجوهر واحد.
Comments are closed.