عظة عيد جسد الرب ودمه الأقدسين – القبر المقدّس 2025
خميس الجسد، السنة (ج)
الأخوات والإخوة الأحبّاء،
ليكن سلام الرب معكم!
بدايةَ تأمّلِنا نجدها في ملاحظة الإنجيلي حول جوع الجموع. فمن الطبيعي، في نهاية يوم حار في مكان مقفر، أن يشعر الناس بحاجة حقيقية إلى الراحة والطعام. إذًا، نحن أمام حاجة ملموسة للإشباع الجسدي، تترافق مع قلق مشروع من كثرة الحاضرين. ويُلفت الإنجيلي انتباهنا إلى حجم الحشد، مبيّنًا أن عدد الرجال وحدهم بلغ نحو خمسة آلاف (لوقا 9: 14).
من ناحية أخرى، نرى فقر التلاميذ، إذ ليس لديهم سوى خمسة أرغفة وسمكتين (لوقا 9: 13). كما أن الظروف التي يحدث فيها كل ذلك غير مواتية: لقد حان المساء، والمكان قفر (لوقا 9: 12). لقد قضت الجموع يومًا كاملًا تتبع يسوع، في الحرّ، دون أن تأكل، وهي متعبة وجائعة، لكن في المساء، وعلى الرغم من كل ذلك، لم ترجع إلى بيوتها، بل بقيت معه.
إن هذا التفصيل يدهشني دائمًا، وأتساءل: هل نحن في نفس حالة تلك الجموع، هل نعرف فعلًا، مثل أولئك الخمسة آلاف، كيف نضع جانبًا حاجاتنا المادية ونطلب حضوره، وأن نرغب في الاستماع إلى صوته، وأن نأكل خبزه، وهو نفسه ذلك الخبز؟ إلامَ نحن جائعون حقًا؟ عن أي طعام نبحث؟ الجوع لا يقتصر على نوعٍ واحد، فنحن ندرك ذلك تمامًا. هناك أشكال عدة للجوع. فما هو إذًا، الجوع الذي يميزنا؟ ما الذي يغذّي حياتنا المسيحية؟ إلى أي مدى تدعمنا الإفخارستيا في حياتنا الإيمانية؟ عمّ نبحث؟
الاقتراح الذي قدّمه التلاميذ لمواجهة جوع الجموع كان أن يُصرف الناس كلٌّ إلى حال سبيله، ليبحث كلّ واحد بمفرده عمّا يشبع جوعه (لوقا 9: 12). غير أن ردّ يسوع جاء مناقضًا تمامًا، ويفتح لنا الباب على عمق السرّ الإفخارستي: لا ينبغي أن ينصرفوا (لوقا 9: 13)، بل على التلاميذ أنفسهم أن يقدّموا لهم الطعام. لا أن ينشغل كلُّ واحدٍ بحاجته، بل أن يشارك التلاميذ ما لديهم مع الجموع بأسرها! دعوة تفوق المنطق البشري، ومع ذلك، هذا بالضبط ما حدث. فمن القليل المتاح، والمقدَّم بروح سخية، أجرى يسوع أعجوبة التكثير، فوزّع خبزًا كافيًا للجميع.
حين نتحدّث عن الجوع، كثيرًا ما يتبادر إلى أذهاننا شعوب بعيدة عنا، وكأننا أمام مسألة نظرية لا تمسّنا مباشرة. ولم يخطر لنا يومًا أن نُضطر، حتى في زماننا الحاضر، وهنا في وسطنا، إلى مواجهة الجوع كواقع ملموس يطال حياة شعبنا. أفكّر طبعًا في غزة، لكن الأمر لا يقتصر عليها، بل يشمل حالاتٍ عديدة من الفقر خلّفها الصراع، وجعلت حياة كثير من العائلات بالغة القسوة.
نحن نعيش زمن الجوع الحقيقي، وإلى جانبه هناك جوع إلى العدالة والحقيقة والكرامة. حتى هذه الأخيرة تبدو كلمات تنتمي إلى عالم بعيد عنّا، لا علاقة لها بحياتنا الواقعية.
وأمام هذا الواقع المأساوي الذي نعيشه، قد نختبر نحن أيضًا ما اختبره التلاميذ من تردّد وانسحاب. فنميل إلى التخلّي، إلى الاستسلام، إلى رفع الراية البيضاء. وربّما نفقد الرجاء، ونكفّ عن الإيمان بإمكانية إشباع جوعنا، ونقتنع بأن لا أحد قادر على أن يبلسم قلوبنا الظامئة إلى العدالة والكرامة. وقد نعتقد أن هذا الصراع لن يغيّر شيئًا في مسار حياتنا، وأن لا مجال أمامنا هنا لعيش حياة تليق بكرامتنا.
غير أنّ جواب يسوع للتلاميذ جاء واضحًا، محدّدًا، ويكشف ما ينبغي أن يطبع حياة المسيحي في كلّ زمان ومكان. فهو الجواب عينه لنا اليوم، نحن أيضًا، هنا في الأرض المقدّسة: “أعطوهم أنتم ليأكلوا” (لوقا 9: 13).
أن نبذل ذواتنا، أن نصير نحن أنفسنا إفخارستيا. فالثبات مع المسيح يهبنا القدرة على السكنى في فقرنا، ويحوّل هذا الفقر إلى فرصة للمشاركة والشركة والثقة والعطاء. وهذا ممكن لنا أيضًا، هنا والآن، لا سيما نحن الرعاة. فنحن لسنا أدوات محايدة في السرّ، ولسنا مجرّد قنوات غير مبالية نوزّع من خلالها الإفخارستيا على المؤمنين وحسب. إنّ عبارة “أعطوهم أنتم ليأكلوا” هي نداء موجّه إلينا أولاً، لنصبح نحن “إفخارستيّين” بحقّ، أي أشخاصًا يبذلون حياتهم في تسبيح دائم لله. لم يُطلب منا أن نتقاسم علمنا، بل أن نشارك حياتنا، تلك الحياة التي يشعّ فيها عمل الله. وبهذه الروح وحدها نستطيع أن نمنح رعيتنا ملامح واضحة ومميزة، وأن نترجم في واقع الجماعة ما نحتفل به في سرّ الإفخارستيا.
في هذا الزمن من الصراعات والحروب، جواب يسوع للتلاميذ هو دعوة إلى جماعتنا الكنسية لترجمة ما نحتفل به في الإفخارستيا إلى حياة. يعني أن نعرف كيف نبذل أنفسنا، أن نتضامن مع بعضنا البعض، أن نستمرّ – رغم كلّ شيء – ببناء العلاقات، وفتح الآفاق، ومنح الثقة. أن نتحلّى بالشجاعة لنكون منفتحين، أي أن نستقبل الآخر، بينما كلّ شيء يبدو مخالفاً. يعني أن نكون قادرين على المشاركة والحياة، وألا نتخلّى أبدًا عن الرجاء. رغم الصعوبات الخارجية والداخلية الكثيرة، ألا ننسحب من حياة الكنيسة، وألا ننغلق على أنفسنا، بل على العكس، وعلى الرغم من كلّ شيء، أن نؤمن دائمًا بأن يسوع وحده، قادر أن يحوّل القليل الذي عندنا، حتى إيماننا القليل، إلى حياة وفيرة للجميع.
لا نستطيع أن نفعل ذلك بمفردنا، فالقوة لا تكمن فينا. فقط يسوع وحده هو القادر على منحنا هذه القوة، وفتح أبواب الحرية أمامنا. ولا نستطيع أن نجد هذه القدرة إلا في الإفخارستيا، في اللقاء الحي مع المسيح الذي مات وقام، والذي يقدّم ذاته من أجلنا.
يترك لنا يسوع في هذا المقطع أيضًا إشارة أخرى. يطلب أن يُقسَّم الحاضرون إلى مجموعات صغيرة: لم تعُد إذًا جموع مجهولة، بل جماعات صغيرة، واضحة ومميزة، حيث تكون المشاركة والشراكة أسهل.
يخبرنا أن الإفخارستيا ليست فقط مركز الجماعة، بل هي التي تشكّل الجماعة أيضًا. فبدون الإفخارستيا لا تتحقق الجماعة الحقيقية. إذ تخلق الإفخارستيا جماعات مترابطة ومتضامنة، يتبادل فيها الأعضاء الدعم والمساندة. “ٱستَولى الخَوفُ على جَميعِ النُّفوسِ لِما كانَ يَجري عن أَيدي الرُّسُلِ مِنَ الأَعاجيبِ والآيات. وكانَ جَميعُ الَّذينَ آمنوا جَماعةً واحِدة، يَجعَلونَ كُلَّ شَيءٍ مُشتَرَكًا بَينَهم، يَبيعونَ أَملاكَهم وأَمْوالَهم، ويَتَقاسَمونَ الثَّمَنَ على قَدْرِ ٱحتِياجِ كُلٍّ مِنْهُم يُلازِمونَ الهَيكَلَ كُلَّ يَومٍ بِقَلبٍ واحِد، ويَكسِرونَ الخُبزَ في البُيوت، ويَتناوَلونَ الطَّعامَ بِٱبتِهاجٍ وسَلامةِ قَلْب” (أعمال الرسل 2: 44-46).
إحدى تحديات كنيستنا اليوم تكمن في غياب التعارف الحقيقي بين أفراد جماعاتنا، التي تبدو أشبه بالجموع الكبيرة بدلاً من أن تكون مجموعات صغيرة متماسكة مثل المجموعات التي شكلها يسوع في الإنجيل. لا يعرف بعضنا بعضًا، ولذلك نعجز عن مشاركة الحياة معًا. يدعونا الإنجيل إلى أن نمنح جماعاتنا وجهًا وهوية واضحتين، تُبنى أساسًا على قربنا وألفتنا مع المسيح، وليس فقط على أنشطتنا الاجتماعية أو الرعوية. ويُختَتم النص بعنصر أخير: “فأَكَلوا كُلُّهم حتَّى شَبِعوا، ورُفِعَ ما فَضَلَ عَنْهم: إِثنَتا عَشْرَةَ قُفَّةً مِنَ الكِسَر” (لوقا 9: 17). حيث يغني بعضنا بعضًا بالقليل الذي لدينا، هناك نختبر الغنى الحقيقي، والوفرة، وامتلاك أكثر ممّا كنا نرجو.
الجماعات التي تنشأ من الإفخارستيا ستكون جماعات غنية بحق، لا يعوزها شيء، فحتى وإن كانت مواردها محدودة، فإنها ستتمكن من تجسيد حضور الله، وهو غنانا الحقيقي.
فليتحقق إذن هذه المعجزة مرة أخرى. ليضاعف الربّ أرغفتنا القليلة وسمكنا الضئيل. ولكن لكي تتحقق هذه المعجزة، لا بدّ أن نُوقظ الرغبة في يسوع، أن نجوع إليه بشوق، وأن نكون مستعدين لتقديم فقرنا، أي أن نقبل بفقدان حتى ما نملك من القليل، وأن نسلم كلّ حياتنا، بلا تحفظ، إلى يدي الراعي الأعظم. فهو وحده القادر على تحويل إنسانيتنا الضعيفة إلى أداة خلاص.
ليُطعِمنا الخبز السماوي، ويُقوّي مسيرة كنيستنا في الأرض المقدسة، وليدعمنا في ظروفنا المختلفة، بشفاعة العذراء، أم الكنيسة وأمّنا جميعًا. آمين.
*ترجمة مكتب الإعلام البطريركي
Comments are closed.