الأحد التاسع بعد العنصرةبقلم الخوري شوقي كرم


“ها هو الآن وقت الرضى، ها هو الآن وقت الخلاص” (2 قور 5: 1-6)
ما من إنسان يأتي إلى العالم، ويعاين ما في العالم من جمال كما ومن ظلمة، من خير كما ومن شرّ، من حبّ كما ومن حقد، من غنى كما ومن فقر، إلّا ويتمنّى أن يرى عالمًا أفضل، عالمًا فيه أكثر حبّ وسلام وعدالة وفرح.
ولو عدنا وقرأنا التاريخ من قبل المسيح إلى يومنا هذا لوجدنا الكثير من الحضارات والثقافات والديانات والإيديولوجيات والعلوم، ورجال دولة وفكر ودين، وعدوا هذا الإنسان بتحقيق توقه العميق هذا إلى عالم أكثر إنسانيّة، لكن، لم يكن نجاحهم الجزئيّ سوى وهمًا تبدّد على مذبح الواقع الّذي فضح هشاشة هذا النجاح، وترك وراءه إنسانيّة أكثر تجريحًا وظلمًا وباسًا ويأسًا.
شخصٌ واحدٌ في مسار هذا التاريخ، مرّ ولم يكن مروره عابرًا، بل هو باقٍ حيّ فاعل في هذا التاريخ لخلاص الإنسان؛ شخص لم تكن وعوده برّاقة ومغوية بل واقعيّة وحقيقيّة تحقّقت وتتحقّق في مَنْ يؤمن به؛ شخص كلمته فاعلة، إن خرجت من فمه لا تعود قبل ان تُحقّق ما لأجله خرجت؛ شخصٌ قال لمّا فتح كتاب أشعيا وقرأ ما تنبّأ عنه من رجاء بخلاص أكيد لشعبه وللعالم، طواه، وتجرأ فقال: “رُوحُ الرَّبِّ علَيَّ، ولِهذَا مَسَحَني لأُبَشِّرَ المَسَاكِين، وأَرْسَلَنِي لأُنَادِيَ بِإِطْلاقِ الأَسْرَى وعَوْدَةِ البَصَرِ إِلى العُمْيَان، وأُطْلِقَ المَقْهُورِينَ أَحرَارًا، وأُنَادِيَ بِسَنَةٍ مَقْبُولَةٍ لَدَى الرَّبّ”. ثم ختم قائلًا: “أَليَوْمَ تَمَّتْ هذِهِ الكِتَابَةُ الَّتي تُلِيَتْ على مَسَامِعِكُم”؛ طبعًا هذا الشخص هو يسوع المسيح، الّذي زاد فقال عن نفسه، ما لم يجرأ أحدٌ أن يقوله عن نفسه، إذ قال: أنا هو الطريق والحقّ والحياة، أنا النور، أنا السلام، أنا خبز الحياة، أنا الرعي الصالح، أنا المسيح المنتظر.
ربّ قائل بيننا، ولكن العالم الّذي نعيش فيه، ما زال يتخبّط بالصراعات والحروب والعنف والاستغلال واللاعدالة، ولا يمر يوم فيه إلّا ونرى تعدٍّ من إنسان على إنسان، فأين هذا الملكوت الّذي دشّنه المسيح بتجسّده وموته وقيامته!؟
تخيّلوا هذا العالم نفسه بدون يسوع المسيح، الّذي يغفر الخطايا بسلطان الكهنوت الّذي سلّمه للبشر ويحرّر قلب الإنسان من الحقد ويجعله قادرًا على المصالحة!؟ تخيلّوا هذا العالم بدون المسيح الّذي يكسر جسده ليولّد الحبّ الحقيقي للآخر في قلوب البشر، فيصبحوا قادرين أن يحبّوا حتى أعداءهم!؟ تخيلّوا هذا العالم بدون المسيح يعلن كلمته، كلمة النور والحق والحياة في وجه كلمات الظلمة اللامتناهية، فينير ويوقظ الضمائر المظلمة. تخيّلوا هذا العالم بدون المسيح الّذي يجعل من يؤمن به يصير خادمًا واضعًا كلّ غناه المادي والفكري والروحي في خدمة الإنسان والإنسانيّة؟!
من المؤكد أن العالم بدون المسيح الحاضر الفاعل فيه بسفرائه الحقيقيين، بالمسيحيين الحقيقيين الّذين همّهم أن يتشبّهوا ويقتدوا بالمسيح، كان سيكون أكثر ظلمة وعنف ولاعدالة ولا إنسانية!
مع المسيح لم يعد من رجاء مُنتظر، لأن ملكوت الله صار بيننا: “ها هو الآن وقت الرضى، ها هو الآن وقت الخلاص” (2 قور 5: 1-6)؛ وملكوت الله سلام وحبّ وعدل حقيقيين. ومن يختار أن يكون مع المسيح وللمسيح لا يمكنه سوى أن يكون مثل المسيح فاعلًا حقيقيًا في نموّ هذا الملكوت المؤسس لعالم أكثر إنسانيّة، أي وأكثر عدالة ومصالحة ومحبّة وخير وسلام.
لقد جعلتنا سفراء لك أيها المسيح، فإن لم نتركك تُصالحنا بمشاركتنا في سرّ التوبة، فلن نستطيع أن نكون بحقّ سفراءك. فيا ربّ، ساعدنا أن نتوب إليك طوال أيام حياتنا، لنستطيع بحبّك ومغفرتك أن نموت عن روح العالم، لنصبح قادرين على أن نتبنى روحك، ونسير بحقّ سفراء المصالحة الّتي حققتها لبشرية أكثر أخوّة لنساهم في بناء عالم أكثر تضامنًا ومحبّة وعدالة وسلام وفرح. آمين.

Comments are closed.