التحوّل من أداةِ هدمٍ إلى معولٍ للبناء بقلم القس سامر عازر


من العداوة إلى المحبة والسلام، ومن الإضطهاد إلى البشارة بكلمة الحياة. هكذا يروي لنا سفر أعمال الرسل في الإصحاح التاسع كيف كان شاول الطرسوسي، قبل أن يلتقي بالمسيح الحي على مشارف دمشق، إذ “ما زال ينفث تهدُّداً وقتلاً على تلاميذ الرب”.

هذه صورة بليغة لشخصٍ امتلأ قلبه حقداً وتعصباً أعمى، فصار أداة اضطهاد تقسو على الكنيسة الناشئة. كانت الكنيسة في تلك الأيام ما تزال فتية، تعيش في جوّ من الرهبة والاضطهاد، بين رفض المؤسسة الدينية اليهودية، وقسوة السلطة الرومانية، وعزلة المجتمع الذي لم يفهم بعد معنى رسالة المسيح. كان الإيمان بالمسيح القائم من بين الأموات يعني مخاطرة وجودية، قد تؤدي بصاحبها إلى السجن أو الجلد أو حتى الموت.

ومع ذلك، لم يتراجع التلاميذ. بل على العكس، ازدادت الكنيسة ثباتاً أمام الريح، لأن رجاءها لم يكن قائماً على حماية زمنية أو ضمان بشري، بل على يقين القيامة. القيامة لم تكن حدثاً ماضياً يُروى، بل قوة حاضرة تحيي القلوب وتثبت الأقدام، وتجعل المؤمن يواجه الموت بلا خوف. وقد عبّر القديس يوحنا الذهبي الفم عن هذا السر بقوله: “لا شيء يجعل النفس قوية مثل الرجاء بالقيامة.”

إن لقاء شاول بالمسيح في طريق دمشق يكشف لنا حقيقة جوهرية: لا قوة في العالم قادرة على إسكات كلمة الله. فحتى المضطهد العنيف، الذي “ينفث تهدداً وقتلاً”، يمكن أن يُؤسر بنور النعمة الإلهية، ويتحوّل من أداة هدم إلى رسول للبناء. وهذا سرّ عمل الله في التاريخ: أنه يحوّل الاضطهاد إلى مجالٍ لنمو الكنيسة، والدماء المسفوكة إلى بذارٍ للإنجيل، كما قال ترتليانوس: “دم الشهداء هو بذار الكنيسة.”

وهكذا لم يعد الألم نهاية الطريق، بل صار بداية جديدة. فالله في حكمته لا يمنع الشرور دائماً، لكنه يحوّلها إلى خيرٍ أعظم، كما يقول القديس أوغسطينوس: “الله لا يمنع الشرور، بل يحولها إلى خيرٍ أعظم.” وما حدث مع شاول المضطهِد الذي صار بولس الرسول ليس سوى برهان حي على هذا المبدأ الإلهي.

واليوم، ورغم اختلاف الأزمنة، ما زال العالم ينفث تهديداً وقتلاً ضد كل صوت حقٍّ يشهد للإنجيل المقدّس الذي ينادي بالمحبة والعدالة والسلام والمساواة والإنسانية، ضد كل من يرفع راية المحبة في وجه الكراهية، وضد كل من ينحاز للضعفاء والمظلومين. لكن الكنيسة مدعوة أن تستلهم صلابة الإيمان الأول، وأن تدرك أن سر قوتها ليس في الأمان البشري، بل في ربّ القيامة الذي غلب الموت، والذي يجعل من الألم شهادة، ومن الضعف قوة، ومن حمل الصليب طريقاً للمجد.

إن رسالة الإنجيل لا تُحمل بخوفٍ أو مساومة، بل بروح الحق والحرية. لقد تعلّم الرُسل أنَّ الموتَ لا يستطيع أن يُسكت الحياة، وأن السجن لا يستطيع أن يُقيد الكلمة. وهكذا يظل صوت الكنيسة الحقيقي هو شهادة لسيادة المسيح الحيّ، مهما نفث العالم تهديداً وقتلاً.

Comments are closed.