شُكرُ القلوبِ النقيةِ لا الشِفاهُ المتملِّقة(بمناسبة عيد الشكر الكنسي) بقلم القس سامر عازر

الشكر ليس مجرّد كلماتٍ تُقال على اللسان، ولا عباراتٍ منمّقة تُرفع إلى الله حينما تحلو الظروف أو تتيسّر الحياة. بل الشكر الحقيقيّ ينبع من عمق القلب المؤمن، من النفس التي اختبرت حضور الله في ضعفها، وذاقت رحمته في فقرها، وشهدت أمانته في أزمنتها العصيبة. لذلك يقول الرسول بولس: «اشكروا الله في كل شيء، لأن هذا هو مشيئة الله في المسيح يسوع من جهتكم» (تسالونيكي الأولى 5: 18).

الشكر إذًا هو حالة إيمانية قبل أن يكون ممارسة طقسية أو تعبيرًا لفظيًا. إنه موقف روحيّ يُعبّر عن فهمنا العميق لعلاقة الإنسان بالله. فالمؤمن الذي يشكر الله على كل حال، إنما يُعلن أن إيمانه لا يعتمد على ما يملك، بل على من يملك قلبه. هو يشكر لأنه يرى في كل حدث، حتى في الألم والضيق، فرصةً لاكتشاف وجه الله ومحبته التي تعمل في الخفاء.

وقد قال القديس يوحنا الذهبي الفم قولًا بديعًا يُلخّص جوهر الشكر الحقيقي:

«ليس شيء يُرضي الله مثل القلب الشاكر. فالشكر في الضيق أعظم من الشكر في الرخاء، لأن الأول دليل إيمان حيّ، والثاني قد يكون عادة.»

غير أنَّ الله لا يقبل شكرًا شفويًا يخرج من أفواهٍ لا يسكنها الصدق، أو من قلوبٍ لا تعيش الإيمان العامل بالمحبة. فالشكر الذي يرضاه الله هو شكر القلوب النقية التي تُقيم الحقّ وتعمل لأجل العدالة والمصالحة، وتزرع السلام حيث يسود الانقسام. إنَّ القلب الذي لا يسعى إلى الخير ولا يحمل نية الغفران، لا يمكنه أن يشكر بصدق. فالشكر الأصيل هو فعل محبة، يلتقي فيه الإيمان بالعمل، والكلمة بالفعل، والاعتراف بالنعمة بخدمة الإنسان لأخيه الإنسان.

وفي عيد الشكر الكنسي، نُدعى جميعًا إلى أن نحيا هذه الروح لا أن نحتفل بها شكليًا. نُدعى أن نراجع ضمائرنا قبل أن نرفع صلواتنا، وأن نسأل أنفسنا: هل شكرنا يصدر عن قلبٍ أم عن عادة؟ هل نشكر الله حقًا حينما نرى معاناة الآخرين ولا نحرّك ساكنًا؟ أيمكن أن نرفع تسابيحنا ونغفل عن إقامة العدل الذي يطلبه الله من شعبه؟

فالشكر الذي لا يقود إلى عمل الرحمة والحق، يبقى صوتًا فارغًا لا يسمعه الله. أمّا الشكر الذي ينضح من قلبٍ متواضعٍ، محبٍّ، صادقٍ، فهو بخورٌ يرتفع أمام عرشه كذبيحة مقبولة.

فلنشكر الله في كل شيء، لا لأن كلّ ما يحدث حسنٌ في ذاته، بل لأن الله يحوّل كلّ شيء إلى خيرٍ للذين يحبونه. ولنجعل من شكرنا طريقًا إلى السلام، ومن إيماننا قوةً للمصالحة، ومن محبّتنا شهادةً حيّةً لإلهٍ لا يطلب الكلام بل القلب.

هكذا فقط يصبح الشكر عبادةً حقيقية، لا على شفاهٍ متملّقة، بل في قلوبٍ نقيةٍ عامرةٍ بالمحبة والإيمان، تعيش مشيئة الله في كل زمان ومكان.

Comments are closed.