ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي القداس الإلهي صباح الأحد الرابع عشر من شباط فبراير في كنيسة الصرح البطريركي في بكركي وألقى عظة في أحد مدخل الصوم بعنوان “كان عرسٌ في قانا الجليل” (يو2: 1).
قال البطريرك مار بشارة بطرس الراعي “تفتتح الكنيسة في هذا الأحد زمن الصوم القائم على أنواع الإماتة والتقشّف والتوبة وأعمال المحبّة والرحمة، بحضور يسوع حفلة عرس في قانا، وبتحويل الماء إلى خمر فائق الجودة. فأكمل فرح العروسين والمدعوّين، بل هو الفرح الدائم في حياة الزوجين والعائلة. وبهذا افتتح الزمن المسيحانيّ، زمن الفرح والتحوّل والعبور إلى الأفضل في حياتنا الشخصيّة والجماعيّة، روحيًّا وأخلاقيًّا، إنسانيًّا واجتماعيًّا، اقتصاديًّا وسياسيًّا. لقد تقصّد يسوع أن يبدأ حياته العامّة ورسالته الخلاصيّة بحضور عرس، ليبيّن أنّه عريس البشريّة الدائم ومصدر سعادتها؛ وأن يجري أولى آياته استجابة لطلب مريم أمّه، ليؤكّد قدرة تشفّعها. فكانت منها كلمتان، واحدة ليسوع: “ليس عندهم خمر”، وواحدة للخدم: “إفعلوا ما يقوله لكم” (يو 2: 3 و5).
ونقلا عن الموقع الإلكتروني للبطريركية المارونية، أشار البطريرك الراعي في عظته إلى أن “كلّ لقاء شخصيّ وجدانيّ مع يسوع هو لقاء عرس، لقاء خلاص وفرح. فخلاصه هو من الخطيئة والحياة الشاذّة، وفرحه هو فرح داخليّ دائم يملأ القلب. في عرس قانا رقّى الخمرة إلى ذروة جودتها، وفي عرسه الخلاصيّ رقّى الخمرة إلى دمه وإلى ذروة الحبّ”. وأضاف غبطته ” رتّبت الكنيسة أناجيل آحاد زمن الصوم بآيات شفاء الأجساد من أمراض متنوّعة، وهي علامات لما تفعل الخطيئة في نفس الإنسان وداخله. وهي البرص ونزيف الدمّ والشلل والعمى. فالأبرص (مر 1: 43-48) شفاه يسوع ممّا كان يشوّه جسده ويتآكله، كعلامة لشفاء الإنسان من الخطيئة التي تشوّه صورة الله فيه. المرأة النازفة منذ ثنتي عشرة سنة (لو 8: 40-56) أوقف نزيف دمها، كعلامة لشفاء الإنسان من الخطيئة التي تتسبّب بنزف أخلاقه وقيمه الروحيّة والأخلاقيّة. ومخلّع كفرناحوم (مر 2: 1-12) شفاه من شلل جسده، كعلامة لشفاء الإنسان من الخطيئة التي تشلّه داخليًّا فيزيغ عقله عن الحقيقة، وإرادته عن الخير، وقلبه عن الحبّ، وضميره عن سماع صوت الله. وأعمى أريحا (مر 10: 46-52)، فتح عينيه المنطفئتين كعلامة أنّ يسوع هو نور العقول والقلوب، والشافي من العمى الداخليّ الناتج عن خطيئته. في كلّ هذه الآيات ورموزها غاية أساسيّة هي ترقيّ الإنسان الداخليّ، الذي منه ترقّي المجتمعات البشريّة إلى الأفضل”.
وتابع غبطته قائلا “هذه الآيات التحويليّة الأربع، نتوسّل مثلها في زمن الصوم الكبير، في حياة كلّ واحد وواحدة منّا لكي ننعم بخلاص المسيح وفرحه. فإذا نلنا هذا الخلاص وهذا الفرح حملناهما إلى عائلاتنا ومجتمعنا ووطننا. وكم نتمنّى لو أنّ المسؤولين السياسيّين عندنا، وأصحاب السلطة، يعيشون على مستواهم الشخصيّ خلاص المسيح وفرحه وترقّيه، لكي ينشروه بدورهم على الشعب الجائع والمقهور والمظلوم والمريض والبطّال والمحوَّل إلى مستعطٍ خلافًا لتاريخه وعيشه بكرامة”.
“إلى متى تحرمون الشعب، أيّها المسؤولون، من حقّه في الخلاص من معاناته، وفي العيش بفرح، وفي ترقّيه الاقتصاديّ والاجتماعيّ؟” قال البطريرك مار بشارة بطرس الراعي في عظته، وأضاف “لقد تجاوزنا عبثًا الفترة المألوفة لتشكيل حكومة تعتمد المعايير الدستوريّة والميثاقيّة أساسًا، ومصلحة الشعب والوطن هدفًا. حان الوقت لأن تستخلصوا العِبر من هذا الفشل. ألّفوا “حكومة الضمير” وليوقّعْها ضميركم. فمن المعيب ألّا تبتدعوا مقاربة جديدة تتخطّى العقد والشروط والمصالح والمزاجيّة ورفض الآخر. الشعب المقهور يريد تشكيل فريق وزاريّ نخبويّ، مستقل، بعيد عن ذهنيّة المحاصصة الحزبيّة، معزّز بذوي خبرة في الشأنين الإصلاحي والوطنيّ لمواجهة التطوّرات الآتية. الشعب يريد حكومة تقوم على معايير المداورة الكاملة وعدم احتكار الحقائب وعدم الهيمنة على مسار أعمالها. ليس المطلوب من رئيس الجمهوريّة ولا من الرئيس المكلَّف أن يتنازلا عن صلاحيّاتهما الدستوريّة ليؤلّفا الحكومة، بل أن يتحاورا ويتعاونا من دون خلفيّات وتحفظات غير مكشوفة. إنّ الحِرص على الصلاحيّات لا يمنع الليونة في المواقف، ولا يحول دون التفاهم. لكن، مع الأسف، نلاحظ أن عمليّة تشكيل حكومة جديدة تتعقّد عوض أن تنفرج، وبهذا تُنزل الأضرار الجسيمة بالدولة واقتصادها ومالها واستقرار أمنها، وتشلّ مؤسّساتها العامّة، وتفكفك أوصالها، وتذلّ شعبها. بأيّ حقّ تفعلون ذلك؟ لا، ليس هذا هو مفهوم السلطة حيث يعجز أصحابها عن الحوار فيما بينهم على حساب الدولة الآخذة بالإنهيار. وفي المقابل لا يوجد عندنا اليوم سلطة دستوريّة تحسم الخلافات التي تشلّ حياة المؤسّسات الدستوريّة”.
“لهذا السبب، وإنقاذًا للبنان”، تابع البطريرك الماروني قائلا “دعوْنا إلى تنظيم مؤتمر دوليّ خاصّ بلبنان برعاية منظمّة الأمم المتحدة. لسنا مستعدّين أن ندع الوطن النموذج، الذي أسّسناه معًا وبنياه ورفعناه إلى مستوى الأمم الحضاريّة، يسقط أمام الظلاميّة أو يستسلم أمام المشاريع العابرة المشرق والمخالفة جوهر الوجود اللبنانّي. لقد آليْنا على أنفسنا، طوال تاريخنا، أن نُعطي الأولويّة للحلول الحضاريّة والسياسية والدبلوماسيّة، لا للحلول العسكريّة. مثل هذا المؤتمر الدوليّ لا ينتزع القرار اللبنانيَّ والسيادة والاستقلال ـــ وهي أصلًا مفقودة حاليًّا ـــ بل يَنتزِعُها من مصادريها ويُعيدها إلى الدولة والشرعيّة والشعب، إلى لبنان. المؤتمر الدوليّ يَنزع التدخّلات الخارجيّة التي تمنع بلورة القرار الوطني الحرّ والجامع، ويُثبّت دولة لبنان ويضمن حيادها الإيجابيّ. ويبقى على الأمم المتّحدة أن تجد هي الوسيلة القانونيّة لتقوم بواجبها تجاه دولة لبنان التي تتعرّض للخطر وجوديًّا.”
وأشار البطريرك الراعي في عظته إلى الذكرى السادسة عشرة لاغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، وقال “في الذكرى السادسة عشرة لإغتيال المغفور له الشيخ رفيق الحريري رئيس الحكومة الأسبق، باني العاصمة بيروت من ركام الحرب بهمّته الساهرة ومفتديها بدم استشهاده، نجدّد التعازي لزوجته السيدة نازك وأولاده وعلى رأسهم دولة الرئيس المكلّف سعد الحريري، وشقيقته الوزيرة السابقة والنائبة السيّدة بهيّة. ونصلّي إلى الله كي يضع حدًّا للقتل والإغتيالات في وطننا، وتعمّ المحبّة والأخوّة الإنسانيّة بين الجميع، ويُعاد بناء بيروت المهدّمة بانفجار المرفأ منذ الرابع من آب، بروح الشهيد رفيق الحريري البنّاء”.
وفي ختام عظته مترئسا القداس الإلهي صباح الأحد الرابع عشر من شباط فبراير في كنيسة الصرح البطريركي في بكركي، قال البطريرك مار بشارة بطرس الراعي “نبدأ غدًا مسيرة زمن الصوم الكبير، بالصيام والصلاة والتصدّق، وبروح التوبة، راجين اللقاء بالمسيح شافي النفوس والأجساد، ملتمسين منه الخلاص والفرح والترقّي الروحيّ، وجاعلينها رسالتنا في العائلة والكنيسة والمجتمع والدولة. ونرفع نشيد المجد والتسبيح للآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.”
هذا وفي رسالته بمناسبة زمن الصوم 2021 بعنوان “الصوم في زمن جائحة كورونا”، قال البطريرك مار بشارة بطرس الراعي “في عظة الجبل، جمع الربّ يسوع بين الصدقة والصلاة والصوم (متى 6: 1-18)”، وأشار غبطته إلى أنه “بالصدقة، نرمّم العلاقة مع إخوتنا وأخواتنا في حاجاتهم، إذ نعطيهم ما هو لهم، لأنّ “خيرات الأرض معدّة من الله لجميع الناس” (الكنيسة في عالم اليوم، 69). ومساعدتهم هي “واجب من باب العدالة” (رسالة العلمانيّين، 8). أمّا الامتناع عن إشراك الفقراء في خيراتنا الخاصّة إنّما هو، بتعبير القدّيس يوحنّا فم الذهب، سرقة حقوقهم واستلاب حياتهم والخيرات التي هي لهم. بالصلاة، نرمّم علاقتنا مع الله، لأنّنا بها نرفع النفس إليه، ونقف في حضرته، ونتأمّل في واقع حياتنا الراهن مسلّطين عليه أنوار قداسة الله. فندرك أنّ حياتنا ملطّخة بالعديد من الخطايا والنواقص والإهمال لواجبات وسوء معاملة وإساءة إلى الغير. فنرفعها صلاة تسبيح لله، وندامة والتماس لغفرانه ورحمته، وطلب لنعمته تعضدنا في مقاصدنا الصالحة بالصوم نرمّم العلاقة مع ذواتنا. فالصوم تكفير عن خطايانا، وسيطرة على إرادتنا، وكبح لأميالنا المنحرفة، وانضباط لحواسّنا. امتناعنا الإراديّ عن الطعام، وشعورنا بجوع مؤقت، يحملاننا على التفكير بالذين يتضوّرون من جوع دائم، فنعمد إلى مساعدتهم لإخراجهم من جوعهم. والقاعدة هي أنّ ما نوفّره من مصروف بصيامنا نساعد به إخوتنا وأخواتنا في حاجاتهم. إنّي في المناسبة أوجّه التحيّة والشكر إلى كلّ الذين يقومون بمبادرات فرديّة أو جماعيّة، والذين يشاركون في حملة كاريتاس لبنان، جهاز الكنيسة الرسميّ الاجتماعيّ، والصليب الأحمر وسواهما من المنظّمات والجمعيّات الخيريّة، فضلًا عمّا تقوم به الرعايا والمؤسّسات. ولا ننسى أنّ حاجات شعبنا اليوم هي ماديّة وروحيّة ومعنويّة وثقافيّة”. في رسالة الصوم لعام 2021، قال البطريرك مار بشارة بطرس الراعي “نظّمت الكنيسة ليتورجيّا زمن الصوم الكبير قبل آلام المسيح الفادي وموته وقيامته، باعتباره زمن استعداد وانتظار للقاء العريس الإلهيّ، مخلّص العالم وفادي الإنسان، وللعبور معه إلى حياة جديدة. فالقيامة هي الحدث الأساسيّ وتجعل المسيح الربّ حاضرًا معنا إلى الأبد”.