“الإرادة الإلهية العظمى” هذا التعبير موجود في (أشعيا 9: 6) كون أن النبوءة كانت حول ملاك الرأي العظيم الذي هو بالحقيقة المسيّا أو عمانوئيل أي المسيح، وتقول النبوءة “وأعطي لنا ابن وتكون الرئاسة على كتفه ويدعى اسمه ملاك الرأي العظيم مشيراً عجيباً إلهاً قوياً أبا الدهر الآتي”.
هذا يدل على الإله المتجسد الذي يحقق إرادة الله الآب أو إرادة الثالوث الأقدس وهنا يشير إلى سر التجسد الإلهي الذي كان موجوداً بفكر الله قبل كل الدهور من أجل خلاص البشر.
وبالتالي، فإن الإرادة الإلهية هي سرّ المسيح كما يسميها القديس ماكسيموس المعترف، ونحن نفهم هذا السر من خلال تجسد الله الكلمة، ويسميه أيضاً سرّ الكنيسة، وبالتالي فإن هذا السرّ يهدف إلى الوصول للحياة الأبدية.
ملاك الرأي العظيم (أشعيا 9: 6) هو ملاك إرادة الله الآب، وأما عن هذه الإرادة فهي لم تكن ظاهرة بوضوح في العهد القديم، ولكنها ظهرت جلياً بتجسد الله الكلمة أي بتجسد ملاك الرأي العظيم الموجود مع الآب منذ الأزل. وما هي إرادة الله؟ إنها تأَلُّه الإنسان من خلال الاتحاد الإلهي بالطبيعة البشرية حيث يصل الإنسان إلى التأله. يفسِّر القديس ماكسيموس المعترف المزمور (32: 11) ” أما مشورة الرب فتبقى إلى الأبد وأفكار قلبه إلى جيل فجيل” أي أن المشورة هي الفكر وهذا الفكر هو تجسُّد الله الكلمة الموجود منذ الأزل ويظل أبدياً في الحياة الأخرى، وبهذا السياق فإن فكر التجسُّد الإلهي موجود عند الله منذ الأزل ويبقى إلى جيل فجيل، والمقصود بكلمة الجيل الأولى هو تحقيق سرِّ التجسد في هذا الزمن، وأما كلمة الجيل الثانية فتعني أن نبقى إلى الأبد أي إلى الحياة الأخرى أي أنه يهدف إلى تألُّه الإنسان وبقائه أبدياً بالنعمة إلى الحياة الأخرى. هذا هو سر المسيح وهذه هي الإرادة العظمى، أي الاتحاد الأقنومي لابن الله مع طبيعتنا البشرية. ان سرّ الإرادة الإلهية هو الأول والأخير. هو كان منذ الأزل ويبقى إلى الأبد، فالله الكلمة قد تجسد كي يحقق هذا الهدف الذي هو تألُّه الإنسان بالنِّعمة، فنراه قد تواضع ونزل كي يرفع الإنسان، فهو الآن يحقق هذا السر، المسيح هو أمس واليوم وإلى الأبد عبرانيين (13: 8) ” يَسُوعُ الْمَسِيحُ هُوَ هُوَ أَمْسًا وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ”. وبالتالي نحن نشترك به من خلال نعمته الموجودة قبل الدهور واليوم أي الزمن الحاضر وإلى الأبد. لأن هذا السر أي سر التجسد هو قمّة الزمن الحاضر وإلى الأبد، ولأن هذا السر أي سر التجسد هو قمَّة كل العصور والأزمنة (رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس 1: 9 – 10) إِذْ أنه عَرَّفَنَا بِسِرِّ مَشِيئَتِهِ، حَسَبَ مَسَرَّتِهِ الَّتِي قَصَدَهَا فِي نَفْسِهِ، لِتَدْبِيرِ مِلْءِ الأَزْمِنَةِ، لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ” لأن التجسد حصل بمسرّة الله الآب وتجسد الابن وبشركة الروح القدس.
إن المسيح هو رأس الكنيسة وهو الإله الإنسان، ولكننا نحن أعضاء متحدين بجسده بالنعمة، وباتحادنا معه نسير على طريق الكمال ونصبح كاملين، إن هذا هو سر المسيح الثابت إلى الأبد. من هنا علينا أن نفهم أن التجسد لم يتم بسبب خطيئة الإنسان، حيث لا يمكن للخطيئة أن تجبر الله بأن يتجسد، وهذا معنى “الكلمة صار جسداً” ليس من أجل خلاص البشر، لأن سر التجسد هو سر المحبّة الإلهية، هذا السّر أعمق من الحنو الإلهي وأعمق من الخلاص من الفساد، وان الهدف الأساسي من التجسد قبل خلق العالم هو تأله الإنسان بغض النظر سواء أخطأ الإنسان أم لم يخطئ، وان هذه الخطة الإلهية ثابتة قبل كون العالم وباقية للحياة الأخرى، ولكن عملية الخلاص (سر الفداء وخلاص البشرية) صارت بسبب خطيئة الإنسان وسقوطه الذي أدى إلى انحراف الإنسان عن الخطّة الإلهية، وبالتالي صُلب المسيح وتألّم وقام من أجل خلاص الإنسان نتيجةً للخطيئة الجدّية التي أدّت إلى الموت والفناء، ليعيده إلى الأبدية وبالتالي إلى التألّه وتحقيق الهدف الأول من خلقه ألا وهو كماله وتألهه.
هذا ما يقوله بطرس الرسول في (رسالة بطرس الرسول الأولى 1: 18 -20) عَالِمِينَ أَنَّكُمُ افْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ الآبَاءِ،بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَل بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ الْمَسِيحِ، مَعْرُوفًا سَابِقًا قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، وَلكِنْ قَدْ أُظْهِرَ فِي الأَزْمِنَةِ الأَخِيرَةِ مِنْ أَجْلِكُمْ” وهذا يعني أن هذا السر موجود قبل خلق الإنسان ولكن أُظهِر لنا من أجل الخلاص ثمّ إلى التأله وبالتالي تحقيق الهدف. إنه هو الساعة التي تكلم عنها المسيح (يوحنا 17 : 1) ” تَكَلَّمَ يَسُوعُ بِهذَا وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ وَقَالَ: «أَيُّهَا الآبُ، قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ. مَجِّدِ ابْنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ابْنُكَ أَيْضًا”، وهكذا يتحقق هذا السر الأزلي بتجسد الله الكلمة كما يقول بولس الرسول (رسالة بولس الرسول إلى أهل كولوسي 1: 26) “السِّرِّ الْمَكْتُومِ مُنْذُ الدُّهُورِ وَمُنْذُ الأَجْيَالِ، لكِنَّهُ الآنَ قَدْ أُظْهِرَ لِقِدِّيسِيهِ، الذين أراد الله أن يعرّفهم ما هو غنى مجد هذا السر في الأمم، الذي هو المسيح فيكم رجاء المجد” وهذا ما يعلمه أيضاً بولس الرسول في (أفسس 1: 3 – 10) “وبالتالي يعرفنا بسر إرادته حسب مسرته التي قصدها في نفسه” وأيضاَ في (رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس 1: 22- 23) “وَأَخْضَعَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، وَإِيَّاهُ جَعَلَ رَأْسًا فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ لِلْكَنِيسَةِ، الَّتِي هِيَ جَسَدُهُ، مِلْءُ الَّذِي يَمْلأُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ”، وعندما نقرأ من (زكريا 4: 2 – 3) نقرأ عن الكنيسة التي رأسها المسيح وعن الروح القدس الذي يغذيها وينيرها ويجعلها منارة لجميع العالم. نفهم من هذه النبوءة أن الله سيسهّل كل الطرق مثلما ساعد زروبابل، وبقوة الروح القدس سهَّل له مهمته، ويتكلم عن حجر الزاوية الذي هو المسيح، هذه النبوءة تعلمنا أن الرب سيتجسد ويخلص العالم ويجعلهم متألهين ويجعلهم قنوات وفتايل للمنارات كي يكونوا أدوات للروح القدس من أجل إنارة العالم وخلاصه.
إذا التجسد صار من أجل خلاص الانسان ليصل إلى هدفه المنشود أي التأله، أما الآلام والصلب فقد حدث من أجل فداء الإنسان وخلاصه من نتيجة الخطيئة وتحريره من عبودية الموت.
إن الهدف الأول والأخير لخطّة الله في الخلق كان هو عملية اتحاده كأقنوم الابن بطبيعته الإلهية بأن يتحد بالطبيعة الإنسانية كي يؤله الإنسان، ولكن بسبب سقوط الانسان بالخطيئة لم يغير الله خطّته وهنا تدخلت المحبّة الإلهية والتدبير الإلهي كإجراء تكميلي وتدبيري للأزمة والنكسة التي حصلت للإنسان، وهكذا فإن الله الكلمة فبالإضافة إلى تجسده أضاف إلينا نعمة فداء الطبيعة البشرية من الخطيئة والموت، وهذا كله بسبب أن آدم استخدم حرّيته بطريقة خاطئة ووقع في الكبرياء وعدم الطاعة لله.
وبالتالي فإن الله الابن وبكامل حرّيته قد فدى الإنسان ودون أن يكون مجبراً على ذلك، فأضاف عملية الخلاص إلى عملية التأله، وهذا تم بسبب أن الإنسان كان مأسوراً عندما كان في حالة السقوط. إن تجسد الله الكلمة تم دون أي اختلاط أو امتزاج ما بين الطبيعتين (الإلهية والإنسانية)، وبالتالي فإن البشر وبما أن لديهم الحريّة الشخصية والإرادة الفكريّة فإن الإنسان عندما يستخدم هذه الحريّة ومن خلال إيمانه ومحبته وجهاده الروحي وبنعمة الروح القدس يستطيع أن يشترك مع الإله المتجسد المسيح، ومن خلال طبيعته الإنسانية المتألهة يصبح شريكاً في سر المسيح الذي هو الكنيسة. لذلك فالمسيح أعطانا أفضل ما عنده وأخذ أسوأ ما عندنا، أعطانا التألّه و أخذ عنا الآلام والموت كي يخلّص الإنسان المخلوق على صورة الله ويعطي الجسد عدم الفناء، وهكذا يُخرج همس الحية التي أتت إلى آدم الأول وولدت عنده الخطيئة وهكذا بالمقابل آدم الجديد خلص هذه الطبيعة وألّهها.
نحن البشر نستطيع أن نصل إلى الأبدية من خلال جهادنا الروحي وتنقية ذواتنا من الأهواء، وبالتالي نصبح القنوات التي يمر بها الزيت من الزيتونتان ونصل إلى الفتيلة التي يشعلها الروح القدس ونصبح منارات تضيء العالم كما قال المسيح: “أنتم نور العالم” (متى 5: 14) وما معنى نور العالم؟ أي نحن أصبحنا أعضاء في جسد المسيح ونضيء طريق التأله بالنعمة للعالم كي يصلوا معنا إلى التأله الذي هو أساس خطّة الله في خلقنا. آمين