ربما لم يصب المرض جريس بمقتل، لكن فاجعته كانت بأخيه الأصغر سليم الذي توفي قبله بنحو أسبوعين بالوباء نفسه مما أصاب قلب الشاعر المرهف والنبيل بـ “الصمت”.
ربما، وقتها كان يردد كلماته الأخيرة حينما وضع الجراح مبضعه لفتحة في الرقبة حينما انحبس الهواء، كمحاولة أخيرة لنجاته، من قصيدته “رحلوا إلى الماضي بدوني”:
“ورحلت في ذاتي/ أفتش عن ملامحي البعيدة/ اقتفي أثري/ أنقب في الخرائب عن بلادي/ اقتفي أثر الخرائط والرسوم، وأقرأ الآثار/ هل وطني هنا”.
الشاعر الإنسان
كان رحيل الشاعر والوزير والإعلامي والفنان والإنسان سماوي “فاجعة” لمن عرفه “رقيقا، مهذبا، نبيلا، مفرطا في الأحاسيس، متواضعا، عروبيا” وقد ترك مساحة من الحزن في الأوساط الرسمية والشعبية.
ونعى رئيس الوزراء بشر خصاونة الشاعر الوزير مستذكرا الخدمات الجليلة التي قدمها لوطنه في جميع المواقع التي شغلها وإسهاماته الواضحة في مجالات الأدب والثقافة والشعر والصحافة والترجمة.
كما نعاه وزير الثقافة علي العايد ببيان، قال فيه “رحيل الشاعر سماوي يعد خسارة كبيرة للوطن، وخسارة للثقافة العربية التي كان أحد رموزها لاسيما وأنه كان يعد علامة فارقة ليس في المشهد الشعري الأردني، وحسب، وإنما الثقافي والإعلامي العربي” مشيرا إلى إسهامه في بناء الوجدان الثقافي والوطني من خلال رؤيته الشعرية الوطنية والعروبية التي “استقاها من ينابيع الأصالة والقيم الراسخة للإنسان الأردني المعطاء”.
وقال رئيس رابطة الكتاب الأردنيين المحامي أكرم الزعبي للجزيرة نت “ما تزال الفواجع تتوالى، والصدمة بإثر الأخرى بسبب هذا الوباء الذي لا يرحم أحدا، وآخر من فقدتهم الرابطة الشاعر والوزير جريس سماوي الذي شكّل رحيله صدمة شديدة في الوسط الثقافي عامةً، ولأصدقائه وزملائه في الهيئة العامة لرابطة الكتّاب الأردنيين.. وإننا إذ نعزي أنفسنا ونعزي أهل الراحل لنرجو له الرحمة والمغفرة، واثقين من وجوده بيننا لأن أثر الكبار لا يزول”.
جغرافيا الحلم
في قصيدة جريس رؤية للمكان بوصفه نصا ناجزا لبلاد الشام، مستمدا قصيدته -وهو المسيحي- من مرجعيته العربية على امتداد حوران وبلاد الشام، ليترامى نصه بين ضفتي النهر وجناحي الأردن وفلسطين مقتربا من مساحات عرار وفضاءات صديقه الشاعر الفلسطيني محمود درويش التي يسميها جغرافيا الحلم.
كما أصدرت جامعة كوستاريكا ترجمة لمجموعة من قصائده، وكذلك أصدرت جامعة إسطنبول مجموعة من أشعاره مترجمة إلى التركية.
سماوي (يسار) مع الراحلين (من اليمين) الشاعر نايف أبو عبيد والفنان نبيل المشيني
ويعاتبه الفنان زهير النوباني على رحيله المبكر ولم يتما مشروعا مشتركا قائلا “هناك حلم لم ننجزه معا لم ينه قصيدته الأخيرة”. أما أمين عام وزارة الثقافة الروائي هزاع البراري فكتب على فيسبوك “كم هو قاس هذا الفقد” ونعاه عدد من وزراء الثقافة السابقين، منهم صبري اربيحات، والدكتور صلاح جرار، الذين وصفوا رحيله بـ “الفاجعة”.
كما عبر عن الحزن مئات من الشعراء والروائيين والنقاد على صفحاتهم الخاصة على شبكات التواصل الاجتماعي، منهم الروائية سميحة خريس، هاشم غرايبة، جلال برجس، موفق ملكاوي، مخلد بركات، ونقيب الفنانين حسين الخطيب، لرحيل الشاعر سماوي الذي وصفوه بـ “المهذب النبيل”.
اعلان
وقالت الفنانة التشكيلية أسيل عزيزية “كان فنانا بحسه، يرسم لنفسه وأعماله التشكيلية تشبه قصيدته، مليئة بالرموز التاريخية والأساطير التي تخص المنطقة، كان يشجع الفن ويتابع الكثير من المعارض، وله رأي نقدي مهم في العمل الفني”.
وكتب أمين عام اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين الشاعر الفلسطيني مراد السوداني “الصديق الشاعر جريس سماوي، وزير الثقافة الأردني السابق.. وداعا”.
رحيل سماوي، الذي دفن اليوم بمسقط رأسه، في بلدة الفحيص (27 كم غرب العاصمة عمان)، أثار عند بعض الكتاب حزنا وألما لم يبتعد عن المناخات القاسية والواقع الثقيل لجائحة كورونا وتداعياتها، وضيق الحال وتغول الطبقة السياسية، فكتب أحدهم “أيها الموت، تصيد البشاعة والطغاة الذين افترسوا الأرض لتكون فريسة للفيروسات والحروب التي تنشب أظافرها بالحياة، أيها الموت أبعد نبالك عن الجميلين، وداعا جريس”.
في قصيدة سماوي رؤية للمكان بوصفه نصا ناجزا لبلاد الشام (مواقع التواصل)
قصيدته برية متمردة
والشاعر سماوي من مواليد الفحيص في 22 ديسمبر/كانون الأول 1956، درس الأدب الإنجليزي والفلسفة وفن الاتصالات الإعلامية في أميركا.
عمل في التلفزيون الأردني وقدم مجموعة من البرامج التي تتصل بجماليات المكان، وعمل كذلك مديراً عاماً لمهرجان جرش للثقافة والفنون حتى عام 2006، وتسلم منصب أمين عام وزارة الثقافة الأردنية، ثم وزيرا للثقافة عام 2011.
صدرت له مجموعة شعرية وحيدة بعنوان “.زلة اخرى للحكمة رغم أنه كتب الكثير من القصائد وترجمت قصائده إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والإيطالية والرومانية والتركية. وقصيدته تمتاز بالرقة والعذوبة وبساطة الكلمات التي يستعيرها من المناطق البرية والطازجة، ويستلهمها من فضاءات التمرد.
ورغم تمرد نصوصه، إلا أنه كان يحرص على أناقته، وخفوت صوته، محبا للحياة، وهو لم يقترن برفيقة درب، رغم أن الأصدقاء يطلقون عليه كنية “أبو حنا” على اسم والده الشاعر وعازف الربابة.