يمر هذه الأيام شهر على زيارة البابا فرنسيس الرسولية إلى العراق والتي قام بها قداسته من 5 حتى 8 آذار مارس. وفي هذه الذكرى كتب بطريرك بابل للكلدان الكاردينال لويس روفائيل ساكو متأملا في هذه الزيارة ومتوقفا عند الاُخوّة والتنوّع كقاعدة إنسانية وأخلاقية أساسية للعيش المشترك، كما وقدم عددا من المقترحات العملية. وهذا هو نص كلمته حسب ما نشره الموقع الالكتروني للبطريركية الكلدانية:
يصادف اليوم 5 من شهر نيسان ذكرى مرور شهر على زيارة البابا فرنسيس للعراق: “لأسألَ اللهَ عزاءَ القلوبِ وشفاءَ الجراح” كما صرح قبيل زيارته ببضعة أيام. ورددّ عبارة مُدوية خلال زياته: “ليصمت صوت السلاح، ويعم السلام“. هذه الزيارة فرصة ممتازة ليستثمرها العراقيون لكي يعودوا بكافة أطيافهم ودياناتهم إلى ذاتهم ووطنيَّتهم ،ويتحلّوا بالمسؤولية، ويطووا صفحة الماضي، ويفتحوا صفحة جديدة للمصالحة وتعزيز الأخوّة بينهم، وإحترام التنوع وإرساء السلام، وإعادة بناء بلدهم وإحياء مؤسساته المتهالكة، وعودة النازحين الى مناطقهم وبيوتهم، فينعم الجميع بالسلام والحياة الكريمة، حالهم حال سائر البشر.
الأخوّة البشرية مصدر قوّة وتكامل
أكد البابا فرنسيس في كافة محطات زيارته على الأخوّة والتنوّع: وهو الموضوع الأساس الذي جاء في رسالته العامة “كلّنا أخوة”، وكذلك في “وثيقة الأخوّة البشرية” التي وقَّعها مع شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيّب في أبو ظبي – الإمارات، ودعمها المرجع الأعلى سماحة السيد علي السيستاني بمقولته المؤثرة : “أنتم جزءٌ منا ونحن جزءٌ منكم”. فالأخوّة البشرية هي هدف كلِّ المجتمعات والديانات، و ينبغي أن تكون نقطة رئيسية لنبذ الغلّو والكراهية وتغيير النظرة والفكر وبناء الثقة حتى نسير معاً إلى الأمام كإخوة وأخوات بالتسامح والمحبة واحترام التنوع، فنبني عالماً أكثر سلاماً وعدالة وكرامة وتقدماً. فالتعاون المتبادل يفتح الباب للمستقبل.
الأخوة في الوطن أساس العيش المشترك
العراقيون من حيث المبدأ والدستور مواطنون متساوون تماماً في الحقوق والواجبات، ولا يمكن أن تنحصر المواطنة في الدين أو المذهب، أو المنطقة أو العرق أو العدد. المواطنة حقٌّ كونيٌّ للجميع.
علينا أن نكتشف اُفقاً جديداً لأخوَّتنا الوطنية بحيث يشعر كلّ واحد أن العراق بيته. لربما حان الوقت لفصل الدين عن الدولة، وبناء دولة مدنية كما فعل الغرب المسيحي منذ زمان وتفعل دولة السودان هذه الأيام! إن الدولة المدنية أو العلمانية ليست معادية للدين، بل تحترم كل الأديان، لكنها لا تقحم الدين في السياسية. أعتقد أن هذا هو الضمان للعيش المشترك “الدين لله والوطن للجميع”. دولة مدنية تضمن حرية الدين وممارسة شعائر العبادة لكل العراقيين على حدٍّ سواء، وتحمي حقوق الإنسان الواردة في كافة المعاهدات الدولية.
الأخوّة الروحية الطريق إلى الله والى الإنسان
شاء البابا فرنسيس بزيارته للعراق أن يتقدمَ مع قادة دينيين عراقيين خطوة نحو الأخوّة الروحية بين المؤمنين، عندما التقى بسماحة السيد علي السيستاني وزار مدينة اُور ارض إبراهيم، ولقائه بممثلي الديانات الإبراهيمية الموِّحدة في العراق. هذه الديانات تستند إلى الطابع الإلهي في كتبها المقدسة وتنتسب الى إبراهيم.
البشر عيال الله وإخوة وأخوات لبعضهم البعض. والإيمان ضمانة لتنوعهم وحريتهم وحقوقهم. في ذلك يقول القرآن: ” إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ” (سورة القصص؛ آية 56).
لا توجد مشكلة في أن يتبع كلُّ فرد ديانته وتقاليده شرط أن يحترم ديانة أخيه الآخر لا أن يكفّره أو يخونه أو يُقصيه أو يزيله. هذا التنوع حاصل بمشيئة الله. قال البابا في اور: “القَناعَةِ الراسِخَةِ بأنَّ التَعاليمَ الصَّحيحَة لِلأدْيانِ تَدعُو إلى التَمَسُّكِ بِقِيَمِ السَّلام.. والتَعارُّفِ المُتَبادَل والأُخُوَّةِ الإنسانيَّة والعَيْشِ المُشْتَرَك” وأنّه “لا يَجُوزُ استِخْدامُ اسمِ اللهِ “لتَبْريرِ أَعْمالِ القَتْلِ والتَشْريدِ والإرْهابِ والبَطْش”. وعلى أنقاض الكنائس الأربع والبيوت المدمرة في حوش البيعة وسط الموصل، رفع البابا صوته قائلاً : “إن كان الله إله الحياة، وهو كذلك، فلا يجوز لنا أن نقتل إخوتنا باسمه. وإن كان الله إله السلام، وهو كذلك، فلا يجوز لنا أن نشنّ الحرب باسمه. وإن كان الله إله المحبة، وهو كذلك، فلا يجوز لنا أن نكره إخوتنا… ليتوقف العنف باسم الله”. أحد الكرادلة الايطاليين كتب الي قائلا: “يا لها من فرحة الزيارة كان العراق خلالها قطعة صغيرة من الجنة بعد الجحيم الذي عاشه”.
من المؤسف لقد فهم البعض أن البابا دعا الى اذابة الديانات في دين واحد. هذا غير صحيح أبداً. الأخوّة لا تعني ذوبان الهوية الدينية في دين واحد، بل دعوة ليحافظ كل واحد على دينه ومعتقده، لكن عليه أن ينفتح على دين أخيه الآخر ويحترمه. الأخوَة والتنوع هما قوة لبقائنا وتقدمنا. علينا أن نعيشها في ممارسات يومية ملموسة، خصوصاً أن العالم شرع منذ 2011 يحتفل بيوم الوئام العالمي في الأسبوع الأول من شهر شباط ومنذ 2021 في 4 شباط باليوم الدولي”للأخوة البشرية” وقد أعلن رئيس مجلس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي السادس من شهر أذار من كل عام يوماً للتسامح.
علينا ألا نيأس أمام بعض المعوقات والتيارات المتطرفة والأفكار المغلوطة أو نستسلم للفرقة، بل لنثابر على تعزيز الأخوّة واحترام التنوع والعمل لينعم الجميع بالخير والعدل والعيش بفرح وسعادة كما يريد الله
أربعة مقترحات عملية:
بناء المناهج التربوية والتعليمية بشكل يرسخ الأخوّة بين العراقيين ويوطد وحدتهم الوطنية.
تنظيم فعاليات توعية للعراقيين بتنوعهم عبر عقد ندوات ومؤتمرات وبرامج تلفزيونية بين الحضارات والثقافات والديانات بغية إظهار القواسم المشتركة وتعميقها واحترام الخصوصيات المختلفة. إن ما يجمعهم أكثر بكثير مما يفرقهم.
إنشاء مركز وطني يضم قاعات محاضرات ومكتبة متخصصة في مواضيع الحوار بين الديانات مما يساعد على تفكيك ظاهرة التشدد و يمنع انزلاق الشباب فيه.
تفعيل قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 ومواده، الملزم بحماية المقدسات ومنع الإساءة الى الديانات ورموزها ومعاقبة المسيء.
إننا على يقين من أن البشرية سوف تتقدم بفضل الأشخاص الكثر ذوي الارادة الطيبة الذين يهبون أنفسهم دون قيد؛ حتى في وقت الشدة وعدم الاستقرار من اجل إشاعة ثقافة الأخوّة واحترام الخير العام. دعونا نتمسك بعلامات الأمل.