٩ أيار ٢٠٢١
(يوحنّا ١٥: ٩–١٧)
نتابع اليوم قراءة الفصل الخامس عشر من بشارة يوحنا، وقد بدأناه يوم الأحد الماضي.
يصف يسوع العلاقة الّتي تربطه بالتلاميذ بعلاقة محبّة: وفي هذه الآيات القليلة تتكرّر كلمة محبّة تسع مرّات.
إلى جانب “المحبّة” نجد مصطلحاً آخراً، وهو على نفس القدر من الأهمية، ويُشير به يسوع إلى تلاميذه، وهو مصطلح “الأصدقاء“: وكي يخبرنا يسوع من هم التلاميذ بالنسبة له، وكيف “يشعر” تجاههم، ها هو يدعوهم “أصدقاء” (يوحنّا ١٥: ١٥).
ماذا تعني المحبّة بالنسبة ليسوع؟ ماذا يعني أن نكون أصدقاءه؟
بادئ ذي بدء، أن نُحبّ يعني أن يسكن الواحد منّا في الآخر. ومحبّة بعضنا بعضاً ليست عبارة عن لقاء عرضي، ولا حتى أن يكون أحدنا متواجدا من أجل الآخر، بينما نبقى خارج بعضنا البعض، وغرباء بعضنا عن بعض، وكل منّا منهمك في حياته الخاصة. المحبّة، بالنسبة ليسوع، لها هذه الكثافة والزخم، وهي أن يسكن الآخر فينا حتى يصبح جزءًا منا: وهذه العلاقة ليست دائما سهلة. كثيرا ما نتصادم، ولا يفهم بعضنا البعض، ونشعر بخيبة أمل. لكن الآخر يبقى جزءًا من حياتنا. لذا لا يمكننا الاستغناء عنه، ولا يمكننا تركه بعد ذلك. وهذا الشعور متبادل.
إن العلاقة القائمة بين يسوع والآب هي الوحدة، أي أن كلّ شيء عندهما مُشْتَرَك: ولهذا السبب يستطيع يسوع أن يقول إنّه يحب الآب وإنّه يحفظ وصاياه (يوحنا ١٥: ١٠).
ولكن هذا هو أيضًا ما عاشه يسوع معنا: لقد أحبّنا لدرجة أنه لم يعد يستغني عنّا، لأنّنا أصبحنا جزءًا منه، وهو لا يحيا بدوننا. يطلب يسوع من تلاميذه الثبات على هذه المحبّة، أي أن نسمح له، أوّلاً وقبل كل شيء، بأن يحبّنا إلى هذا الحد.
إنّ خبرة الثبات، بالنسبة لنا، تنطوي على إشكالية كبيرة: إنّ ما نفعله، في ضعفنا البشري، في أغلب الأحيان، هو الضياع ونسيان من نحن، إلى وأين نحن متّجّهون، ومع من نحن ذاهبون. نحن غالبا ما نكون أول من يهرب من الحياة، ومن أنفسنا ومن الآخرين.
يروي لنا تاريخ الخلاص، وكذلك تاريخنا الشخصي، العديد من هذه الأحداث. ولكن الثبات الذي يتحدّث عنه يسوع اليوم، لا يستثني ما سبق حقًا. ليس من قبيل المصادفة أن خطابات الوداع، الّتي يُشكّل هذا الفصل جزءًا منها، يضعها البشير يوحنّا قبل آلام يسوع، في اللحظات الّتي لن يثبت فيها التلاميذ، بل تشتّتـوا كلهم إلا واحدا. إنّ المحبّة، بالنسبة ليسوع، تعني إعطاء الآخر حيّزا آمناً ومفتوحاً ومُرحّباً للغاية، بحيث يمكن للآخر أن يعود إليه ويشعر وكأنّه في بيته الخاص، كما لو لم يُغادره أبداً.
إن فعل “مكث” لا يمت بصلة إلى القدرات البشرية، بل ينتمي إلى آفاق رحمة الربّ، الذي جعلنا خاصّته ودعانا أصدقاءه حتى قدّم لنا مكاناً يمكننا المكوث فيه حتّى في هروبنا وإخفاقاتنا وفشلنا وتخلّفنا وخطايانا: مهما ابتعدنا، فإنّنا لا نخرج أبداً من هذا العناق، ومن هذا المنزل.
إذاً، الموضوع هنا، بالدرجة الأولى، هو المكوث والبقاء حيث يمكن أن نُقرّ بخطيئتنا، وألا نحاول تبرئة أنفسنا بشكل أهوج: لن تكون خطايانا هي الّتي تمنعنا من البقاء، بل ادعاءاتنا بأنّنا لسنا خطأة. إن المكوث يعني العيش في رحمة الربّ، وهو المكان الآمن الذي تكفينا فيه النعمة.
كلّ هذا يقود إلى الفرح الحقيقي العظيم: “قلت لكم هذا ليكون فرحي فيكم فيكون فرحكم كاملاً” (يوحنا ١٥: ١١).
قد تراودنا تجربة الاعتقاد أن محبّة من هذا النوع، إذ تتطلّب القبول الكامل وبذل الذات حتى النهاية، هي عقبة أمام الفرح الحقيقي؛ في تخيّلاتنا العصريّة، كلمة “ثبات” تدل على القيود والتضييقات أكثر منها على الحرّية.
ليس الأمر كذلك بالنسبة ليسوع: فهو أوّل من يعرف “الفرح” (يو ١٥: ١١)، الناتج عن حفظ وصايا أبيه، أي أنه يبقى متّحداً معه في إرادة واحدة وحياة فريدة. وهناك يحصل على كل شيء.
يريد يسوع أن يكون أسلوب فرحه هذا نصيب تلاميذه أيضاً، فيتعلّموا أن يحبّوا بعضهم بعضاً، وأن يكونوا لبعضهم البعض مسكنا طيّبا، وأن يكونوا متقبّلين للجميع في تنوّعهم وفي أتعابهم، وقادرين على الصفح بعضهم عن البعض.
إن القدرة على الثبات بعضنا مع بعض تشير إلى رابطة أقوى من صلة الرحم، إلى علاقة يكون فيها الآخر خاصتي، وعليه، يُهمّني أمره ولا يمكنني سوى الاعتناء به، إلى حدّ بذل حياتي من أجله: وهذا هو معنى أن نكون أصدقاء (يوحنّا ١٥: ١٣)، بموجب فكر الربّ.