دائماً في مطالعاتي للآباء النساك كنت اتساءل أنى كان لهم ان يكتبوا عن رذائل لم يرتكبوها ويصنفوها وبعد تحليلهم الداء كانوا يقدمون الدواء فتأخذ منهم ما تستطيع وتستشفي. غير ان الآباء عالجوا ناساً كثيرين جاؤوا اليهم مسترشدين. ولعل الفضيلة ترشدك الى معرفة الرذيلة بسبب من التناقض. أنا لست ناسكاً ولكني سأحاول فيما أحلل نفسي وأوغل في رؤية الشر ان افهم شيئاً من رذيلة الحسد والتدقيق فيه لا يطرحك فيه ولكنه يساعدك على الخروج منه ولعل دوري أن أذيقك مرارته لتتقيأه ان لذعك بعض الشيء أو لامسك كثير؟. فيما كنت أسعى الى تحديد الحسد أو مصدره في النفوس المصابة فيه لفتتني الآية القرآنية في سورة النساء: “ثم يحسدون الناس على ما أتاهم الله من فضله: (الآية 54) هذا هو جوهر هذا الأثم، انت لا تطيق الخير في سواك فتتحرق لوجود مواهب فيه أجمالاً كان أم ذكاء أم تقوى أم غنى أم وجاهة في الدنيا. لا تتحمّل نفسك فقيراً الى هذا ولا تتحمّل الآخر موفور البهاء بأي فضل من العلي. تعليل ذلك انك كاره للآخر ولا تريد له حسن الوجود وحسن الطلعة الروحية أو الفكرية وكان عليك ان تسر بحسناته لأن الحق المنتشر أو الجمال أو الفطنة تنبئك بمجد الله فيه وبكرمه العميم والله حر في ان يوزع نعمه حيث يشاء ولعل له قصداً باختيار هذا او ذاك وان يخصه بعطاء منه واذا سطعت عليك أنوار الموهوبين فخذها. قد لا تنزل عليك من فوق رحمة تستنزلها. ماذا يمنع ان تؤتاها بالوسطاء الذين فوّض اليهم ربهم توزيع المغانم الروحية؟ الا ان “لسان العرب” يتوسع بتبيان المضمون للحسد “الحسد ان تتمنى زوال نعمة الحسود اليك” ثم يوضح الناموس الحسد ان يرى الرجل لأخيه نعمة فيتمنى ان تزول عنه وتكون له دونه؟ مجموعة مشاعر متقاربة فتارة ترى في الآخر حسنة وتغتاظ لسكناها اليه. وطوراً تغتاظ لكونك عاجزاً عن ان تحصل عليها. وفي كل حال انت رافض للبركات التي عند الآخر بسبب من كرهك له أو بسبب من انغلاقك دونه أو من انغلاقك دون كل الناس أو معظمهم. هنا ندخل في آلية الحسد. هو قرين الغضب أو النميمة أو كليهما اذ يجب ان تقتل الآخر في صيته أو صورته عند الناس فتلفق ما ينفعك تلفيقه لتدمر المحسود اذ المهم ألا تظهر حسناته لئلا تزول أنت وينتج من ذلك انك تفتش عن أصغر ضعف فيه أو بعض من نقص تافه لتركب عنه “صورة منحوتة” فتذيعها وتحاول اقناع الناس بها اذ القاعدة ان يجتمع الحساد في عصبة رهيبة. غايتها ان تقتل الموهوب. لا يجوز ان تقف انت أمام العصابة. لذلك كانت النميمة عنصراً في القتل المعنوي مهماً. تذهب أحياناً بصورتك الحقيقيّة الى الأبد ويثبت النمّام كلامه ويظن انه به يحيا غير ان غباوته اقنعته انه اكتشف الحقيقة اذ أبادك ولم يبدك واستطاع ان يجمع حوله بعض الأغبياء. الحسد دائما يفضح والمرتكب لا يريد ان يفتضح فيهاجم ويظن انه قوي لأنه أخذ يضربك بلسانه أو التعامل. لا يزول الحسد الا باهتدائنا الى اننا جميعاً واحد وبأني لا أستطيع ان أقول أنا الا اذا قلت لك انت. أي لا يزول الحسد الا بالـ”نحن”. اجتماعي اليك هو حقيقتي، هو كياني بل الكيان هو كيان الجماعة المتحابة التي يعترف كل واحد فيها بحرية الله ان يهب ما شاء لمن شاء. والمواهب موزّعة بالمحبة الإلهية الحرة أبداً. وحتى تعترف بالآخر لا بد لك من ان توقن انه حبيب الله وانه يحيا كما تحيا انت بالاختيار الالهي وما اعطي لك ان تعرف شيئاً عن حركة الله الى خلائقه حتى يبين الأبرار فتقبل اليهم واذا رايت الله فيهم تراه بعدئذ فيك. واذا اهتديت ترى الحسد منافياً للعلاقة الشركوية التي تربط بالبشر وبالكون. وتفهم، عندذاك، ان مجد الشمس شيء ومجد القمر شيء وكلاهما فيهما مجد. الحس الشركوي الذي أشرت اليه أدركه بولس في رسالته الى أهل غلاطية لمّا دعاهم ألا يغاضبوا بعضهم بعضاً ولا يحسد بعضهم بعضاً. قبل ذلك حذّر العهد القديم من الحسد الأفراد. العهد الجديد بلسان بولس يخشى على الكنيسة ان تتصدّع اذا تعاطينا الغضب والحسد وفي قراءة شاملة للعهد الجديد الكلمات المعطوفة بعضها على بعض هي الحسد والقتل او الحسد والخصام فتجتمع هذه المفردات بشكل عضوي في النفس. فاذا كان الغضب في النفس قرين البغض فما من شك في ان الانسان الحاسد لا يعرف المحبة. لذلك قال الرسول: “المحبة لا تحسد” (1 كورنثوس 13 :4). يستتبع هذا القول ان الحسود يعشق نفسه عشقاً آثماً وانه يتعذر عليه ان يتحرّر من وطأتها ليتقبّل عطاء نفس أخرى اليه فاذا سادته النفوس الطيّبة يحيا بها. وان لم يتقبّل القلب القلوب الأخرى بترحاب يقسو حتى التحجّر. طبعاً قد لا يحسد أحدنا باستمرار شخصاً آخر اذا أدرك ان هذا الشعور يعطبه. وقد يعرف الشوق. هذا الصعود والنزول يجتمعان في قلب واحد ويذهب الانسان مع كل ريح. ولكن هذا يعني ان المحبة الكبيرة الشاملة لم تسكن هذا القلب وانه لا يعبد الله عبادة خالصة. فالله وحده يعصمك عن القتل المعنوي الذي قد يلازمك طوال حياتك. غير ان النعمة ممكن حصولها في كل حين. ان زوال الحسد مستحيل بلا عبادة لله كاملة فلا تملأ القلب بالأصنام. فان لم يكن لك إله غيره يكون كل الناس محبوبين لديك. وقبل ان يكون هذا تكون مثل اليهود الذين أسلموا المسيح حسداً. أنت دائماً تسلم من لا تحب. فاذا اخذك الله في حنانه وكشف لك ان بهاء الآخرين هو منه تعود من الله الكاشف الى حقيقة احتضانك الناس بلطف وفرح بما اغدق الله عليهم من عطايا |