نورسات الاردن
تحمل كل هبة معها بعض الأسئلة. فشراؤنا لغرض ما لا يثير فينا دهشة أو تساؤلات، ذلك لأننا نعلم المكان الذي اشترينا منه ذلك الغرض، كما نعلم قيمته والهدف المراد منه.
لكن عندما يهبنا أحد شيئاً ما، نبدأ بطرح أسئلة، ويكبر الاهتمام حينما تكون الهبة مجانية وغير متوقعة وعندما لا يكون لدينا الوقت كي نتمنى الحصول عليها.
تشير كل هبة إلى الشخص الذي وهبنا إياها: لماذا قام بذلك؟ من هو؟ ماذا أراد أن يقول لي؟
رأينا الأحد الماضي الهبة التي منحها يسوع للجمع الذي شبع من الخبز وفضُلَ عنه الكثير.
يحتوي باقي الفصل السادس من إنجيل القديس يوحنا على أسئلة حول هذه الهبة. نستطيع من خلالها الاقتراب من فهم معناها وما يمثله هذا الخبز.
عادة ما نتكلم عن هذا الفصل في سياق “خطاب” يسوع في مجمع كفرناحوم. في الحقيقة، ليس خطاباً بل حوارٌ ناجمٌ عن أسئلة طرحها الشعب حول هبة الخبز. إنه ليس حوارًا منفردًا، لأن الله لا يفعل ذلك.
يشتكي يسوع في مقاطع أخرى من الإنجيل عندما لا يطرح الناس الأسئلة ولا يصدر عنهم أي رد فعل. يشبهون جيلاً لا يرقص إن سمع تزميرًا ولا يبكي إن سمع ندبًا (راجع لوقا ٧: ٣١– ٣٥).
وعليه ينبغي أن نتعلم طرح الأسئلة على أنفسنا، لا الاسئلة الخاطئة كما رأينا في إنجيل اليوم. فور تكثير الخبز، يصعد التلاميذ في القارب ويقصدون الشاطئ الآخر. لا يذهب يسوع معهم، بل يلحق بهم عند حلول المساء وسط هبوب العاصفة، ماشياً على الماء (يوحنا ٦: ١٦– ٢١). يندهش الناس مما حصل: إن لم يصعد في القارب فكيف وصل إلى الجانب الآخر؟
ينم هذا السؤال عن دهشة إزاء هذا المعلم الاستثنائي والغامض. هو معلم يهرب من الناس الذين أرادوا أن يقيموه ملكاً (يوحنا ٦: ١٥)، كما يهرب من الناس الذين يريدون أن يعرفوا عنه كل شيء وأن يمتلكوه ويسيطروا عليه.
في الحقيقة، يقول يسوع أن هذا السؤال غير صحيح، ذلك لأنهم لا يبحثون عن معرفته، بل عن امتلاكه وضمان حضوره كي يستطيع أن يشبع جوعهم.
إنهم يسعون وراء الخبز وليس وراء يسوع، أو بالأحرى لا يسعون وراء يسوع، لأنهم يريدون الخبز فقط. باختصار، يكتفون بالخبز ولا يبحثون عن أي أمر أبعد من ذلك.
وعليه فإن السؤال الصحيح ليس سؤال الجمع: “رابي، متى وصلت إلى هنا؟” (يوحنا ٦: ٢٥) السؤال الحقيقي مختبئ في طيّات إجابة يسوع: “أنتم تطلبونني، لا لأنكم رأيتم الآيات: بل لأنكم أكلتم الخبز وشبعتم” (يوحنا ٦: ٢٦). هذا هو السؤال الصحيح: ما الأمر الذي نريده عندما نطلب يسوع؟
يجوب هذا السؤال إنجيل يوحنا من البداية إلى النهاية. يخاطب يسوع أولاً تلميذي القديس يوحنا المعمدان، اللذين تركا معلمهما الأول لاتباعه (يوحنا ١: ٣٨)، كما يكرّر السؤال ذاته على مريم المجدلية التي تبحث عنه بين الأموات (يوحنا ٢٠: ١٥).
إلا أن الإنسان لا يدري عما يبحث وأحياناً لا يدري أن هناك أمراً يتجاوز الخبز، أي يتجاوز الإنسان ذاته.
أما يسوع فيريد أن يأخذنا إلى هناك.
لهذا السبب يعلن يسوع عن جوع جديد ويدعو إلى البحث عن طعام يُغذّي حياة لا تفنى: “لا تَعملوا للقوت الفاني بَل اعمَلوا للقوت الباقي للحياة الأبدية” (يوحنا ٦: ٢٧).
ما هو هذا الطعام؟ إنه ذاك “الذي يُعطيكموه ابن الإنسان” (يوحنا ٦: ٢٧).
نستطيع القول إن الخبز الذي يبقى للحياة الأبدية هو حياة الله الذي يهب ذاته: إننا نغذّي أنفسنا بواسطة هبة الله وهذه الهبة هي حياة يسوع ذاتها. إنه خبز الحياة الحقيقي (يوحنا ٦: ٣٥).
ومن بين محاوري يسوع ثمة من يعتقد أنه للحصول على هذا الخبز يترتب القيام بعمل ما (يوحنا ٦: ٢٨). ذلك ليس صحيحا. تتردّد في الآيات القليلة اللاحقة كلمة “هبة” بشكل مكثف وشبه متواصل. من خلال هذه الهبة التي تستطيع أن تغذينا وهذا الخبز الذي كثّره يسوع، نستطيع القول إن الله ذاته هو هبة، وأنه إن غذينا أنفسنا بهبته يمكننا أن نعيش حقاً.
العمل المطلوب فقط هو أن نتغذّى منه، وهذا العمل يسمى الإيمان (يوحنا ٦: ٢٩)؛ المطلوب أن نؤمن به “فقط” وأن نذهب إليه وأن نثق بالهبة القادرة على تغذية جوعنا إلى الحياة والمحبة. المطلوب هو تبني وجهة نظر جديدة للحياة والملكوت حيث تكون الحياة هبة ممنوحة مجانا.
هذه هي الفقرة الأولى في الفصل السادس لإنجيل يوحنا، يبدأ فيها يسوع التكلم عن خبز وعن جوع آخرين: خبز يكون هبة ثمينة وجوع يتم اشباعه باستقبال هذه الهبة