نورسات الاردن / المهندس باسل قس نصر الله،
من يعرف صداقتي معه، يفهم تماماً بأن المطران المخطوف الذي أعنيه هو “يوحنا ابراهيم” مطران طائفة السريان الأرثوذكس في حلب.
في أحد لقاءاتي معه، أخذ قطعتين من “الكليجة” وهي نوع من المعجنات التي اشتهر بها سكّان “الجزيرة السورية وسابقاً دعاها التاريخ بلاد ما بين الرافدين”، وأعطاني واحدة وقضم الأخرى، ومرت ثوانٍ من الصمت وهو يمضغ قطعة “الكليجة”، وبعيون شاردة في فضاء الغرفة، كان يفكِّر وأنا ارى العينين تبحلقان، ثم قال لي بلهجته “الجزراوية” – وبالحرف – وكأنه يتنبأ مستقبله: “يا باسل، أفضل أن اموت شهيداً في حلب ولا أعيش شريداً في العالم”.
كنتُ ألومه على اندفاعه في السفر والتنقل بين مختلف مناطق الأزمة، لمتابعة أمر المخطوفين، فأجابني: “وهل نترك الناس من أبنائنا للعبث”.
كانت الأمور تزداد تفاقماً وكل يوم كنّا نسمع عن فصيل جديد، وعناصر مسلحة جديدة، وبدأت الأسماء تتوالى، فمِن “استقم كما أُمرت” و “أحرار الشام” و أحرار الجزيرة” إلى “ألوية الفرقان” و “أنصار الشام”، وبدأت تصل عناصر غير سورية ومنها “أجناد القوقاز” و “أنصار الشريعة الباكستانية” و “الحزب الاسلامي التركستاني” و .. و .. وضاع الأمر فكل بقعة لها أمير، وكل شارع يتبع إمارة، و “سيدنا يوحنا” يتابع ويتّصل ويعمل كل ما بوسعه لكي يحرر المخطوفين، ويساعد على وصول الطعام إلى المناطق المتعددة، وغيرها من الأعمال الكثيرة التي بقيت طيّ الكتمان.
كنتُ قد سألته سابقاً: “سيدنا لماذا لا تسافر خارج حلب وخاصة أن كنيستك قريبة من خط النار؟” فأجابني وهو ينظر لي كأنه لا يصدق أن مثل هذا الطرح قد صَدَر مني: “معقول يا باسل؟ إن بقائي يعطي الاطمئنان للناس وليس لأبناء طائفتي فقط”.
سافرنا سوية، ولن أنسَ سفري معك “سيِّدنا” ومع شهيد المحراب، الشيخ “سعيد رمضان البوطي” إلى قبرص. ولا أستطيع نسيان الكثير من السفريات داخل سورية ولا جلساتنا التي كنتُ أبث فيها شكواي وقلقي، ولن أنسَ عندما جئتُكَ مرة وأنا متضايق كثيراً من محاولة تهميشي من قِبل بعض المسؤولين الروحيين والزمنيين، فعلّمتَني عدم التراجع بقولك: “طبيعي يا باسل أن يحاول الناس تهميشك، ولكن من غير الطبيعي أن تنكفىء وتقبَل التهميش، إن محاربة التهميش تكون بالمزيد من العمل والحضور”، وهذا ما أقوم به سيدنا.
كم مِن مرة صَعدتَ الى الطابق الخامس لتعزية عائلة أو زيارة مريض أو مشاركة الناس بأفراحهم، وكنتَ تقول لي: إنهم بحاجة لِمن يشاركهم آلامهم وأنا بوجودي بينهم أُقوّي من معنوياتهم، إنهم بحاجة إلينا يا باسل”
كم جلسنا في بدايات الأزمة، لنتشاور ونطرح الرؤى المتعددة، وبعد مضي أكثر من ثماني سنوات من خطفك لا أفهم سرّ ما حدث ولا إلى متى.
أعرف أن كلماتي لن تقرأها ولكني واثق أنك ساهمتَ في صياغتها.
أكتب رسالتي هذه وأنا أتذكر كم أضفت إنارات فيني.
فطِبتَ لنا بكل ألأحوال وعمتَ مساء
اللهم اشهد اني بلغت