نورسات الاردن
يتطرق إنجيل اليوم مرة أخرى، وبمناسبة عيد انتقال مريم العذراء إلى السماء إلى النشيد المريمي “تُعظّم نَفسي الرّب”.
أود أن أتوقف لوهلة عند هذا النشيد وأن أشير إلى أمريْن.
يتعلق الأمر الأول بعلاقة النشيد مع ما جرى في الناصرة. لا يمكننا فهم نشيد مريم إن لم نبدأ من لحظة دعوة مريم العذراء.
في الناصرة، كانت مريم مستعدّة كليًا للقيام بعمل الله، ووضعت ثقتها به. الثقة في هذه الحالة تعني أن يجازف المرء بحياته من أجل كلمة شخص آخر، من غير تبني مخطط أو حياة أخرى غير تلك التي يضعها الله له.
لقد اختبرت مريم ذلك وآمنت، وربطت حياتها بهذا العمل واختارت القيام به، وتحمّلت مسؤوليته وتخلت عن كل شيء.
وعليه تنطلق مريم من الناصرة وتصل إلى بيت قريبتها اليصابات، وتتأكد فور وصولها أن هذه الثقة “تعمل” وأن عمل الله حقيقي، وأن الله يعمل حقًا.
ومن هنا يفيض نشيد مريم. إن صلاة التسبيح، والحياة كتسبيح، لا تقتصر فقط على قولنا إن الرب صالح وأمين وغفور. ليس التسبيح شعرًا.
التسبيح هو تسليم لإرادة الله والقبول الكامل لعمله والاتحاد معه.
يتدفق التسبيح من خبرة خلاص تركت أثرًا فينا: غالبًا ما وُلدت مزامير التسبيح من حدث مأساوي اختبرنا فيه، وكلنا ثقة، أن الرب تدخل حقًا بالنيابة عنا وأخرجنا من حالة لا نستطيع الخروج منها بقوانا.
وعليه، يولد التسبيح عندما يعي المرء حضور الله وعمله فيه.
يتعلق الأمر الثاني بفحوى نشيد التعظيم والذي هو فحوى عمل الله، والطريقة التي يقرّر بها التصرف. إن أردنا أن نلخّصه بكلمة واحدة نستطيع أن نستعمل كلمة “قَلَبَ”.
تُدرك مريم أنه حينما يدخل الله في التاريخ، “تنقلب” الحياة. كل من يجلس في الأعلى يصبح بالأسفل ومَنْ في الأسفل يصبح في الأعلى. الغني يصبح فقيرًا والفقير يصبح غنيًا. الصغار يصبحون كبارًا والكبار يصبحون صغارًا. العاقر تلد والأعمى يرى وهكذا.
يتردد صدى هذا النص بعمق في نصوص أخرى في العهد الجديد (وفي العهد القديم أيضًا)، كما نرى في التطويبات أو الفصل الرابع من إنجيل القديس لوقا حينما يقرأ يسوع في مجمع الناصرة من سفر القديس أشعيا مشيرًا إلى أنه قد أُرسل لهذا السبب، ألا وهو قَلب موازين التاريخ.
يقوم الرب بهذا، لأنه قام أولًا بقلب حالته هو، ووضع نفسه إلى جانب الإنسان. وبالفعل، وضع يسوع نفسه إلى جانب الفقير والصغير. أصبح يسوع، الذي هو الله، إنسانًا.
وحينما يدخل يسوع في التاريخ يقلب الحالة ويستمر بفعل ذلك حتى الفصح حينما تسقط مملكة الموت، وتُغفر خطابا الخاطئ، وتنبثق الحياة من الموت.
يُعلّمنا هذا النص أولاً أنه يمكننا اعتبار مسيرة الحياة، في ضوء مسيرة مريم، كمسيرة من الناصرة إلى عين كارم. الحياة بأكملها مدعوّة إلى أن تصبح نشيدًا كهذا، لا بمعنى الشعر، بل، كما قلنا، بالجهد اليومي كي تتطابق مشاعرُنا مع مشاعر المسيح، في فعل تسليم – الذي قد يكون مأساويًا كما حصل على الصليب – لإرادة الآب. هذه هي الحياة التي تسبح الله. تعلّمنا هذه الحياة أيضًا أن نتبدّل. هكذا يعمل الله مع أي إنسان. يدخل ويغيّر. يستعمل محدوديتنا ويعيش في ضعفنا ويستعمل ما هو أكثر ظلمة فينا ليحمل إليه جِدّة الحياة، وهكذا. ليس سهلا أن يقبل الإنسان أن يتغير وأن يتبدّل. هذا هو الإنسان الحر. أسهل جدا أن يأخذ الإنسان موقف المتفرّج من أن يترك الله يبدّل حياته. أسهل جدًّا على الإنسان أن ينجح من أن يقبل أن ينجح غيره. ويمكننا أن نربي الآخرين على هذه الحرية، إن تمتّعنا نحن بها أولا.
ليمنحنا الله النعمة لأن نقوم، على مثال مريم، بالرحلة من الناصرة إلى عين كارم، وأن ينمو – خلال هذه الحلة، وخطوة خطوة، تسبيحنا وحريتنا.