نورسات الاردن
“يمكن للجراح أن تكون ثغرات، وفتحات، على مثال جراح الرّبّ يسوع، تسمح بمرور رحمة الله، ونعمته التي تغيّر الحياة وتحولنا إلى صانعي سلام ومصالحة” هذا ما قاله قداسة البابا فرنسيس في كلمته للأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات والإكليريكيين وأساتذة التّعليم المسيحي في براتيسلافا.
في إطار زيارته الرسوليّة إلى سلوفاكيا التقى قداسة البابا فرنسيس صباح الإثنين الأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات والإكليريكيين وأساتذة التّعليم المسيحي في كاتدرائيّة القديس مارتينُس في براتيسلافا وللمناسبة وجّه الأب الأقدس كلمة قال فيها أنا هنا لأشارككم مسيرتكم وأسئلتكم، إنتظاراتكم وآمالكم في هذه الكنيسة وهذا البلد. لقد كان هذا أسلوب الجماعة المسيحية الأولى: كانوا مثابرين ومتفقين ويسيرون معًا.
تابع الأب الأقدس يقول هذا أول ما نحتاج إليه: كنيسة تسير معًا، تسلك دروب الحياة حاملة شعلة الإنجيل متقدة. الكنيسة ليست قلعة، أو حصنًا على الجبل ينظر إلى العالم من بعيد وباكتفاء. الكنيسة هي الجماعة التي ترغب في أن يجتذبها المسيح بفرح الإنجيل، إنّها الخميرة التي تخمِّر ملكوت الحبّ والسّلام في عجينة العالم. من فضلكم لا نستسلمنَّ لتجربة العظمة الدنيويّة! على الكنيسة أن تكون متواضعة مثل يسوع، الذي أخلى ذاته وصار فقيرًا لكي يغنينا: هكذا جاء ليقيم بيننا ويشفي بشريّتنا الجريحة.
تابع الحبر الأعظم يقول لنخرج من قلقنا المفرط على أنفسنا وهيكلياتنا ولننغمس في حياة الناس الحقيقيّة ولنسأل أنفسنا: ما هي الاحتياجات والانتظارات الروحيّة لشعبنا؟ ماذا ينتظر الناس من الكنيسة؟ يبدو لي أنّه من المهم أن أحاول أن أجيب على هذه الأسئلة، وتأتي إلى ذهني ثلاث كلمات. الأولى هي الحريّة. بدون حرية لا توجد بشريّة حقيقيّة، لأنّ الكائن البشري خُلق حرًّا ليكون حرًّا. إنّ الفترات المأساويّة في تاريخ بلدكم هي درس كبير: عندما جُرحت الحريّة وانتُهِكت وقُتِلت، انحطت البشريّة وعصفت بها عواصف العنف والإكراه والحرمان من الحقوق. كذلك في الوقت عينه ليست الحريّة “فتحًا أو غزوًا” آليًّا، يبقى كذلك إلى الأبد. الحريّة هي على الدوام مسيرة، متعبة أحيانًا، وينبغي تجديدها باستمرار. إنَّ الحريّة تطلب من الشخص أن يكون مسؤولًا عن خياراته، وأن يميِّز، ويسير قدمًا بمشاريع الحياة. وهذا أمر متعب ويخيفنا.
أضاف البابا يقول أيّها الأعزّاء، لا تخافوا من تنشئة الأشخاص على علاقة ناضجة وحرّة مع الله. قد يعطينا هذا الأمر انطباعًا بعدم قدرتنا على التحكم بكلّ شيء، أو بأنّنا فقدنا القوة والسّلطة. لكن كنيسة المسيح لا تريد أن تسيطر على الضمائر ولا أن تحتّل الأماكن، وإنما تريد أن تكون “ينبوع” رجاء في حياة الأشخاص. أقول هذا خصوصًا للرعاة: أنتم تمارسون خدمتكم في بلد تغيّرت فيه أشياء كثيرة بسرعة، وتم إطلاق العديد من العمليّات الديمقراطيّة، لكن الحريّة لا تزال هشة. هي كذلك بشكل خاص في قلوب وأذهان الأشخاص. لهذا أشجعكم على أن تجعلوهم ينموا أحرارًا من تديِّن مُتشدِّد، وأن يتمكن كل فرد أن يكتشف حريّة الإنجيل، فيدخل تدريجيًّا في العلاقة مع الله، بثقة العارف بأنّه أمام الله يمكنه أن يحمل تاريخه وجراحه دون خوف ودون ادعاءات، ودون قلق الدفاع عن صورته. ليكن إعلان الإنجيل مُحرِّرًا، ولتكن الكنيسة علامة للحرية والقبول!
الكلمة الثانية، تابع الحبر الأعظم يقول هي الإبداع. أنتم أبناء تقليد عريق. إنَّ خبرتكم الدينيّة تجد أصولها في وعظ وخدمة صورتين منيرتين هما القديسان كيرلس وميتوديوس. هما يعلماننا أنّ البشارة ليست مجرّد تكرار للماضي. فرح الإنجيل هو المسيح على الدوام، لكن السبل لكي تشقَّ هذه البشرى السّارة طريقها عبر الزمن والتاريخ هي متعددة. عبر كيرلس وميتوديوس معًا هذا الجزء من القارة الأوروبيّة، وإذ كانا يتّقدان بشغف إعلان الإنجيل، توصّلا إلى ابتكار أبجديّة جديدة لترجمة الكتاب المقدّس والنصوص الليتورجيّة والعقيدة المسيحيّة. وهكذا أصبحا رسولَيْ انثقاف الإيمان بينكم. اخترعا لغات جديدة لنقل الإنجيل، وكانا مبدعَين في ترجمة الرسالة المسيحيّة. ألا تحتاج سلوفاكيا إلى هذا اليوم أيضًا؟ أليست هذه المهمة الأكثر إلحّاحًا للكنيسة بين شعوب أوروبا: إيجاد “أبجديات” جديدة لإعلان الإيمان؟ إزاء ضياع معنى الله وفرح الإيمان، لا يفيدنا أن نشتكي أو أن ننغلق في موقف دفاع كاثوليكي ونحكم على العالم ونتهمه، وإنما نحن بحاجة إلى إبداع الإنجيل. لنتذكر ما فعله هؤلاء الرجال الذين أرادوا أن يحملوا رجلًا كسيحًا أمام يسوع، ولم يتمكنوا من المرور من الباب الأمامي. ففتحوا فتحة في السطح ودلوُّه من فوق. لقد كانوا مبدعين! ما أجمل أن نجد طرقًا ووسائل ولغات جديدة لإعلان الإنجيل! إنَّ كيرلس وميتوديوس قد فعلا ذلك، ويقولان لنا: لا يمكن للإنجيل أن ينمو ما لم يكن متجذرًا في ثقافة شعب ما، أي في رموزه، وفي أسئلته، وفي كلماته، وفي طريقة كيانه.
وأخيرًا تابع البابا فرنسيس يقول الحوار. إنَّ الكنيسة التي تربي على الحريّة الداخليّة والمسؤولة، وتعرف أن تكون مبدعة من خلال الانغماس في التاريخ والثقافة، هي أيضًا كنيسة تعرف أن تتحاور مع العالم، مع الذين يعترفون بالمسيح بدون أن يكونوا منا، ومع الذين يتعبون في البحث الديني، وكذلك مع الذين لا يؤمنون. إنّها كنيسة، على مثال كيرلس وميتوديوس، توحّد وتجمع بين الشّرق والغرب، بين التقاليد والحساسيّات المختلفة. جماعة تعلن إنجيل المحبّة فتنبت الشّركة والصّداقة والحوار بين المؤمنين، وبين مختلف الطوائف المسيحيّة وبين الشعوب. إنَّ الوَحدة والشركة والحوار هي على الدوام أمور هشّة، لاسيما عندما يكون هناك في الماضي قصة ألّم قد تركت ندوبًا. يمكن لذكرى الجراح أن تجعلنا ننزلق في الاستياء وعدم الثقة وحتى الازدراء، وأن تحملنا على بناء الأسوار أمام الذين يختلفون عنا. ومع ذلك، يمكن للجراح أن تكون ثغرات، وفتحات، على مثال جراح الرّبّ يسوع، تسمح بمرور رحمة الله، ونعمته التي تغيّر الحياة وتحولنا إلى صانعي سلام ومصالحة.
وختم البابا فرنسيس كلمته إلى الأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات والإكليريكيين وأساتذة التّعليم المسيحي في براتيسلافا بالقول أعزّائي، أشكر الله على تواجدي بينكم، وأشكركم من كلّ قلبي على ما تقومون به وما أنتم عليه! أتمنّى لكم أن تكملوا مسيرتكم في حريّة الإنجيل، وفي إبداع الإيمان، وفي الحوار المتدفق من رحمة الله الذي جعلنا إخوة وأخوات، ويدعونا لنكون صانعي سلام ووئام. أبارككم من كلّ قلبي. ومن فضلكم، صلّوا من أجلي.