نورسات الاردن
غيب الموت مؤخرًا الكاتب المسرحي اكرم ابو الراغب (1945-2021 ،)وهو أديب وفنان معروف على المستويين المحلي والعربي، وصاحب تجربة طويلة ممتدة، وخبرة في فن
كتابة النص المسرحي للاطفال وإخراجه، فضلا عن كتاباته المسرحية والتلفزيونية
والابداعية للكبار والصغار، وله ما يزيد عن خمسين مؤلفا لألطفال. وكانت وزارة الثقافة اختارته شخصية مهرجان مسرح الطفل في العام 2018 ،تقديرًا لما
قدمه مسرحيا للطفل.
رحل أبو الراغب عنا وهو مدجج بالافكار لمسرحية، التي كان يأمل بتنفيذها، ولكن الموت لم يمهله. عند التأمل في ما قدمه من عروض مسرحية كان يقوم هو نفسه بكتابتها وإخراجها؛
بشقيها الاول الخاص بالطفولة والثاني الموجه للكبار، ولا بد من الاشارة، قبل ذكر مسيرته في عالم الطفولة، إلى أثر عائلته في دفعه بقوة نحو هذا المسار المسرحي.
كان أبو الراغب منذ نعومة أظفاره، مولعا بالكتابة، وسرد القصص والحكايات الخيالية،
لاقرانه الصغار، وهذا ما أكده لكاتب هذه السطور من خلال حوارات أجريت معه ونشرت
في »الرأي”: »بعد أن أصبحت أبًا لستة أطفال، علموني كيف أتعامل وأتصادق معهم،
ومن هنا تعلمت منهم ومن مواقفهم؛ معنى البراءة والصدق والعفوية وأمور كثيرة،
فقد كانوا لي المعلمين حقًا، فكنت أقرأ لاطفالي قصصا كثيرة وأنسج لهم الحكايات
ذات الخيال، وأستخلص من تعبير وجوههم البريئة ما يحبون وما يكرهون، وكنت
أحقق آمالهم وأحالمهم بمشاركتي لهم في حواراتهم وأشاركهم تجاربهم،
ومحاوالتهم لفهم أي شيء، وكنا ننجح معا.
بالعودة الى انشغالات أبو الراغب بمسرح الطفل، فقد كانت تتأسس على مراعاة سن الطفولة بإيصال رسائلها بيسر وسهولة، كما في مسرحية غوار في وادي الغراب الاسود بتقديم شخصيات معروفة ومحببة لهم، كانت تطرح محمولات المسرحية التي يتصارع فيها الخير والشر. وكذلك في مسرحية الاسد والتنين التي فّعل فيها الراحل
تعبيرية شخوص الحيوانات نحو حس إنساني أوصله للاطفال لا بل إن رؤيته الاخراجية
في هذه المسرحية، اتسمت بجرأة كبيرة بطرح موضوع سياسي، لم يخل من البساطة
للطفل، في سياق رمزي لجهة الاجابه على أسئلة الصراع التي تمور في دواخل النفس
البشرية.
ففي أحداث المسرحية، التي يتمظهر فيها الصراع بين شخوص الاسد وحيوانات
الغابة، التي جسدت جانب الخير، والجانب الاخر التنين والديناصورات التي جسدت دور
الشر؛ تتساءل الشخوص الخيرة، عند حدوث الصلح مع الشخوص الشريرة: هل نحن مع
السلام أم ضده؟ هل نقبل أم نرفض؟ وهل عقد صفقة سلام مع العدو سلام ام استسلام؟ وهل القوي هو الذي يفرض السلام على الضعيف؟
أما المسرحية الثالثة التي يمكن الحديث عنها مما راكم الراحل أبو الراغب، فهي
الاوبريت الغنائي سندريالا الذي أظهر مقدرته فيها من حيث تبيئة النص الاجنبي
فأضاف شخصيات وحبكات قريبة من مزاج المتلقي، طرحت التوتر، مما دفع بالفعل
الدرامي إلى الامام طيلة العرض، وهذا ما أكده بالقول: قد أنشأت إضافات لتجميل
الحكاية، وإضفاء التشويق على أجوائها، لتغدو عملا مبتكرا في بنائها وشكلها
وأضاف: »كما لجأت إلى استخدام تقنية الرجوع بالاحداث إلى الخلف، ثم العودة بها تارة أخرى للواقع المعاصر، لمحاولة إضفاء التنوع على سياق التواصل
أما المسار الثاني في ما قدمه الراحل من نتاج يخص الكبار، فهناك مسرحية »العرافة
التي لم يكتبها ضمن لحظة وليدة طارئة، بل استغرقت منه انشغالات استمرت لثلاث
سنوات، بحسب ما صرح به عند تقديمها، وقد اعتبرها الراحل محطةمهمة في حياته
الادبيه تأليفًا، والفنية إخراجًا.
كانت هذه المسرحية، التي تعد التجربة الاولى له ضمن مسرح الكبار، موفقة جدًا
لافادته من الموروث الشعبي، القريبة جمالياته من أمزجة المتلقين، لجهة اتكائه على
شخصية العرافة، المتعارف عنها عند الناس بالفتاحة، وهي شخصية كما وصفها أبو
الراغب مركبة على الدجل والنصب والاحتيال، فصيحة اللسان وجريئة، ولا تراعي الخوف من الله
وكانت الصياغة الدرامية موفقة بربط طرق تعامل العرافين مع زبائنهم وبواسطة
الدجل والنصب والاحتيال، مع ما يحصل في العالم من أحداث سياسية ومكائد
ومؤامرات، فضَال عن الاسقاطات الاجتماعية والانسانية عربيًا ومحليًا.
كما طرحت المسرحية تعبيريتها بأسلوب كوميدي ساخر، هجت فيها مهازل السياسة
الدولية من حيث معاييرها المزدوجة، هذا من جهة، ومن جهة ثانية تبيان طرق طرح
بعض المستوزرين والمرشحين للمجالس النيابية والبلدية وهم يسارعون إلى زيارة
العرافة لضمان فوزهم.
حرص الراحل في مسرحيته، على إكساء مشاهدها بصريا باللوحات الاستعراضية
الراقصة الجميلة، على أنغام صوت الموسيقى، بصوت تيسير أحمد، الذي عاصر زمن
الطرب الاصيل وقدم وصالات غنائية لفريد الاطرش ومحمد عبد الوهاب وموشحات
صباح فخرى وغيرهم من أصحاب الاغاني الطربية الاصيلة كما لوحظ أنه لم يحترف ثقافة الطفل وفنونه، إال بعد أن تجاوز عمره الثلاثين عاما، لان
ولوج عالم الطفولة ليس بالامر اليسير، بل يحتاج إلى تجربة كبيرة وثقافة واسعة،
وهذا المعنى الذي أكده من خلال حوارات »الرأي معه، بالقول: من يدخل هذا العالم الواسع، يجب أن يكون ذا ثقافة واسعة وخيال مترع خصب، والاهم هنا كيفية إيصال هذه المعلومات إلى إدراك الطفل العفوي البريء، فلا بد أن يمررها لهم وفق حكاية أو
صياغة مسرحية تتناسب مع أحاسيسهم ومفاهيمهم الصادقة، إذ إن الطفل شديد
الحساسية، كميزان الحرارة الذي يتحرك لاقل انفعال
وكان أبو الراغب رحمه الله يعي التأثير الضار لبعد الطفل عن الكتاب، والالتصاق بالشاشات الالكترونية المختلفة، فكان يقول ضمن تلك الحوارات: التلفزيون ومختلف التقنيات التكنولوجية الحديثة لا تغني أبدا عن الكتاب، فالطفل يجلس أمام برامج
التلفزيون ساعات، ويسلم عقله لها بلا تفكير ولا تخيل، فالعيون تنظر والعقل لا يفعل
شيئا، لان الشاشات تقدم كل شيء، بينما القراءة توسع المجال والتصور والتفكير
وتساهم في إعمال العقل والخيال في الحياة، لذلك حتى نجعل عددا أكبر من الاطفال
يمارسون القراءة، لا بد أن يكون الكبار مقتنعين بأهمية القراءة، ليحرصوا على توجيه
أبنائهم نحوها وترغيبهم فيها، فالطفل يجب أن يعلم من قبل الكبار ليفعل أي شي فلا بد أن يجالسه أحد لاول مرة، أو لعدة مرات، فيتعلم أن يفعل هو بنفسه، فلماذا لا نعلمه أن يقرأ أيضًا؟ إن تعليم الاطفال القراءة معطى مهم جدًا، لان الامة
المتعلمة هي فقط من تستحق موقعها في هذا العالم، والامة لا تصبح متعلمة الا إذا
تعلم أطفالها وشبابها