نورسات الاردن / القمص أثناسيوس جورج
أوردت وسائل الإعلام أخباراً متكررة عن حالات انتحار Suicide دامية ومحزنة ، وهي مدخلي في البحث حول النهاية التي انتهت إليها هذه النفوس ، حيث أن مجد الله في خليقته ولذَّته في بني آدم ، وحيث أن حياة الإنسان هي لرؤية الله ونوال هباته المجانية الممنوحة من عند إله الرحمة والرافة محب البشر الصالح والذي لا تفرغ رأفاته؛ بل هي جديدة في كل صباح ، وهو الذي أوصى كل حي ، كي يختار الحياة ليحيا بالروح والحق متجلياً بالجمال الإلهي.. لكن الخطية هي التي تغرس الوهم فيمن تسود عليهم وتجعل وجودهم عبثياً وعدمياً وزائفاً في ( سجن الأنا) يطلبون ما لأنفسهم ، بينما لن نكون مسيحيين بالكلام بل بالشركة والعمل في حياة المسيح وفرح الثالوث القدوس بحيث لا نتوقف عند الثرثرة والإدانة؛ بل ننتقل إلى متطلبات الضرورة الموضوعة على كل واحد منا ، كحجارة حية في بناء واحد وأعضاء لجسد واحد . لا نتزعزع ولا نرتاع فيه ( بالخلاص المشترك ) بل نكون مالكين لأرواحنا ،لأن ضابط نفسه خير من حاكم مدينة ، شاخصين لرجاء دعوتنا وإلى الداخل الذي يتجدد يوماً فيوماً و غنى مجد ميراث القديسين الذي نأتي إليه وعنده نصنع منزلاً .
أما الانتحار فهو قتل الإنسان لنفسه عمداً وذاتياً ليُنهي حياته باختياره ، من حيث يدري أو لا يدري . وهي عملية تدمير متعمد للحياة التي هي هبة من الله وآتية من عنده ، والتي تقع في فلك ومدار قدرته ، كونها عطيته ، وقد صار الإنسان وكيلاً لها ، يتحمل مسئولية الحفاظ عليها ، لأنها ليست ملكًا له بل لله الخالق الذي أعطاه إياها ، منذ أن جَبَلَه على غير فساد ، حسب صورته ومثاله الإلهي الأقدس .
مسيحُنا هو سيد الحياة والموت ، ومعه وحدَهُ مفاتيح الدهور والهاوية والأزمنة ، و هي له وحده وليس لملكه انقضاء ، لذلك إهلاك الكيان المخلوق بواسطة الانتحار ، هو تمرد في وجه الله الخالق المخلص ، وهو ينُمّ عن انعدام الإيمان بالعناية الربانية ، لهذا يعد الانتحار تعبيراً صارخاً عن التجديف وجحد الإيمان ومرارة اليأس المشابهة لموت يهوذا . ويقول أحد اللاهوتيين عن المنتحر بأنه “يهوذا الخائن الذي رفض الله والله رفضه” ، لكنني في هذا الخصوص لا اقصد أبداً أن استدعي مرارة الحدث وجسامه الفعل وبشاعته ، بقدر ما أتجه نحو التوعية اللاهوتية الواجبة ، والتي مُفادها أن الله يرفض كل من يقضي على حياته بنفسه ؛ لأن “من خطئ إلى نفسه فمن يزكيه” ، وكل “من أساء إلى نفسه فإلى من يُحسن” (بن سيراخ ٣٢:١٠ – ٥:١٤) .
ووسط هذه الأجواء المشحونة عاطفياً بالمشاهد الصعبة التي تكررت وتداولها الإعلام . أقول أين نحن من هؤلاء ؟!! هل سيصبح الانتحار ظاهرة عندنا ؟!! وكيف لم نصِلْ إلى هؤلاء ؟!! إنها ليست مسؤولية جهه بعينها ولا أشخاص محددين ، ودَعُونا لنعمل ونخدم جميعاً لأن خدمة النفس البشرية تحتاج إلى الكثيرين لا إلى المتفرجين والمكتفين بالوصاية والانتقاد الهدَّام ، فهؤلاء انتحروا كونهم أحسوا بأنهم مرفوضين ومحتقرين مهملين ومتروكين ومكروبين ، إنهم انتحروا لأننا لم نخبرهم بمعنى بشارة الحياة الأبدية ، وبمسيح الخلاص والرجاء والشبع والسرور . انتحروا لأنهم لم يتعرفوا عملياً على مُريح التعابى الذي يعطينا النجاح وينزع الغم من قلبنا والشر عن لحمنا (جا١٠:١١) ويخلص إلى التمام … ما الذي أوصل هؤلاء إلى خيار الموت وإلى عدوى وباء الانتحار الذي يستحوذ على الأدمغة ؟!! ليتنا لا نكتفي بالتحسرات والتمنيات بينما يبقي الظل معتماً يخيم بعيداً عن المعالجة الروحية والاجتماعية والنفسية والمادية . ليتنا ندين أنفسنا أولًا؛ لأن التشخيص هو طريقنا إلى العلاج الحق ، فلا نقف في خانة القائل “أحارسٌ أنا لأخي” !! … ومهما تعددت أسباب الانتحار التي يسمونها علمياً الآن ب “الانتحار الواعي” سواء كانت أنانيات أو تشويش واكتئاب أو اعتلال النوافل العصبية أو الإحباطات والصدمات والعوارض ، إلا أنه لا بُد أن يكون لدينا رعاية رحيمة وتعليم لاهوتي مشبع ووقائي ، حتى لا يكون دور السامري الصالح غائباً عن الحدث .