نورسات الاردن
عشيّة الأحد الثّاني من الزّمن العاديّ، تأمّل بطريرك القدس للّاتين بييرباتيستا بيتسابالا بإنجيل يوحنا ٢: ١– ١١، الّذي يحرص فيه “يوحنّا الإنجيليّ على قراءة خبرة يسوع انطلاقًا من سفر التّكوين”، فكتب بحسب موقع البطريركيّة:
“وكما جاء في الفصل الأوّل من سفر التّكوين، يستهلّ القدّيس يوحنّا إنجيله باستعمال عبارة “في البدء”. ويسرد هذا البدء في قصّة الأسبوع الأوّل من حياة يسوع، يومًا بعد يوم.
تجري الأمور كما لو أنّنا أمام خلق جديد. كما خلق الله العالم والإنسان في 6 أيّام وارتاح في اليوم السّابع، يُعيد يسوع الآن خلق الإنسان، ويعيد إحياء الخليقة ويردّها إلى جمالها الأصليّ وإلى ما كانت عليه في البدء، أيّ إلى الآب.
يبدأ النّصّ الّذي سمعناه اليوم (يوحنّا ٢: ١– ١١) بعبارة زمانيّة: “وفي اليَومِ الثّالث، كانَ في قانا الجَليلِ عُرسٌ…” (يوحنّا ٢: ١). كان يوحنّا قد سرد أحداث الأيّام الثّلاثة الأولى الّتي قضاها يسوع في الجليل، حيث نشأت حوله المجموعة الأولى من التّلاميذ (يوحنّا ١: ١٩– ٥١). من هناك، ذهب يسوع وتلاميذه إلى الجليل في اليوم الثّالث.
يتوجّب علينا التّوقّف قليلاً عند هذه العبارة. نحن في اليوم السّادس، أيّ يوم خلق الإنسان، إلّا أنّ يوحنّا يريد أن يشير إلى كونه أيضًا اليوم الثّالث لوصول يسوع إلى الجليل، وأنّ العدد ثلاثة يشير إلى يوم العهد العظيم كما جاء في الفصل ١٩ من سفر الخروج (الخروج ١٩: ١؛ ١٩: ١٦). في اليوم الثّالث، يوحي الله عن ذاته للشّعب في تجلٍّ إلهيّ عظيم ويُعطي للشّعب العبرانيّ الوصايا العشر الّتي ستكون أساس علاقتهم وعهدهم.
ما الّذي قصده الإنجيليّ بإشارته الواضحة إلى هذه العبارات الزّمنيّة في حادثة قانا الجليل؟ ما هي هذه الخليقة الجديدة؟ وأيّ مجد (يوحنّا ٢: ١١) يظهره يسوع لتلاميذه؟
في قانا، جعل يسوع من حدث عاديّ أمرًا هامًّا. الحدث البسيط هو عرس قانا ونقص الخمر. ذلك أمر اعتياديّ وليس فيه حياة أو موت. فالطّعام متوفّر والحفلة في نهايتها والأمر ليس مأساويًّا على ما يبدو. إلّا أنّ يسوع جعل من تلك المناسبة فرصة سانحة ليدشّن آياته ويظهر مجده فيؤمن به تلاميذه (يوحنّا ٢: ١١).
يقوم يسوع بذلك بسخاء لم يسبق له مثيل، لأنّ فرح الزّوجين البسيط يستحقّ هذه الوفرة وهذا الفيض من الحبّ والهبات. إنّ الإنسان الجديد الّذي يخلقه يسوع هو الّذي يحبّه الله حبًّا جمًّا ويكشف له هذا الحبّ وهذه الكلمة.
إنّ التّلاميذ مدعوّون لكي يؤمنوا بهذا الأمر، وكي يروا مجد الله الّذي لا يتجلّى بعد الآن على جبل سيناء بين البروق والرّعود، بل في فرح الزّوجين الجديدين.
ولكن ما الشّرط المطلوب توفّره لحدوث ذلك؟
يبدو لي أنّ النّصّ يقدّم لنا شرطين على الأقلّ.
الشّرط الأوّل ذكر سابقًا في الفصل ١٩ من سفر الخروج، عندما صاح الشّعب وقت إعلان مجيء الرّبّ: “كُلُّ ما تَكَلَّمَ الرّبُّ بِه نَعمَلُه!” (خروج ١٩: ٨). وبالطّريقة نفسها، تجري الأمور في قانا حيث تقول مريم للخدم: “مَهما قَال لَكُم فافعلوه” (يوحنّا ٢: ٥).
الشّرط الّذي يجب أن يتوفّر لكي يتلقّى الشّعب المؤمن الجديد خمر العهد الجديد الطّيّب يتمثّل في “عمل كلمة الله” أيّ تسليم أنفسنا بكلّ ثقة لكلمة الرّبّ. هذه الكلمة، منذ البدء تخبرنا عن حبّها ورغبتها في إنشاء علاقة مشتركة وودّيّة وفريدة مع الإنسان.
إلى أين ستأخذنا هذه الطّاعة المُحبّة؟
يقول القدّيس يوحنّا إنّ هذه الطّاعة ستفضي بنا إلى بيت عنيا. في ذلك المكان، في الفصل ١٢، تمّ حدث مماثل لعرس قانا. نحن في اليوم الأوّل من الأسبوع الأخير الّذي عاشه يسوع (يوحنّا ١٢: ١)، حيث نرى امرأة تُعبّر عن حبّها ليسوع بدهنها قدميه بطيب من النّاردين الخالص وبوفرة مذهلة.
يبدأ العرس في قانا ولكنّه ينتهي في بيت عنيا حيث تستجيب المرأة لحبّ ربّها بنفس الأسلوب من الوفرة والفيض.
أمّا الشّرط الثّاني، الّتي تشير إليه والدة الرّبّ أيضًا، فيتمثّل في طلبها الخمر من يسوع وليس من أحد آخر (يوحنّا ٢: ٣). لا تتحدّث مريم مع ربّ البيت أو مع شخص آخر لأنّها تعرف تمامًا أنّ لا أحد يستطيع أن يقدّم خمرة جديدة.
في قلب الإنسان نقص جذريّ للحياة والحبّ وهذه الوفرة الجديدة للحياة ستفيض على الجميع من نبع سينفتح من جنب المسيح في اليوم السّادس، فيظهر جليًّا أنّ مجد الرّبّ يقوم على حبّه لنا إلى أقصى الحدود.”