نورسات الاردن
صادفت السبت الذكرى المئوية لرحيل السعيد الذكر البابا بندكتس الخامس عشر، في الثاني والعشرين من كانون الثاني يناير ١٩٢٢، هذا البابا الذي ارتبطت حبريته بأهوال الحرب العالمية الأولى، وبالنداءات العديدة التي أطلقها من أجل وضع حد لها.
في عام ١٨٥٤، عندما كانت تعاني مدينة جنوى الإيطالية من وباء الكوليرا، أبصر جاكومو ديلا كييزا النور، وسط عائلة من النبلاء، ونال المعمودية في كنيسة سيدة الكروم. كان في الخامسة عشرة من العمر عندما عبر عن رغبته في عيش الحياة الكهنوتية، لكن نزولا عند رغبة أبيه التحق بكلية الحقوق، وبعد تخرجه تابع دروس اللاهوت وسيم كاهنا في الحادي والعشرين من كانون الأول ديسمبر من عام ١٨٧٨، قبل أن يضع نفسه في خدمة السلك الدبلوماسي للكرسي الرسولي.
عام ١٨٨٣ انطلق إلى مدريد ليعمل كأمين سر للسفير البابوي هناك. نال السيامة الأسقفية من يد البابا بيوس العاشر في كابلة السكستين في الثاني والعشرين من كانون الأول ديسمبر عام ١٩٠٧، ومن ثم عُين رئيس أساقفة على أبرشية بولونيا. عُين كاردينالا في الخامس والعشرين من أيار مايو ١٩١٤، وبعد ثلاثة أشهر وافت المنية البابا بيوس العاشر، ولم يكن قد مر شهر واحد على اندلاع الحرب العالمية الأولى.
خلال الكونكلاف الذي التأم في الحادي والثلاثين من آب أغسطس من ذلك العام انتُخب الكاردينال ديلا كييزا حبرا أعظم، واختار لنفسه اسم البابا بندكتس الخامس عشر. وسرعان ما بدأ يطلق النداءات من أجل وقف الحرب، وفي إرشاد رسولي أصدره في الثامن من أيلول سبتمبر ١٩١٤ دعا من يمسكون بمصير الشعوب لأن يتخلوا عن خلافاتهم لصالح المجتمع البشري كله. وتحدث في الوثيقة عن أهوال الحرب العالمية، لافتا إلى أن جزءا كبيرا من القارة الأوروبية وقع في قبضة الحديد والنار، في وقت يذرف فيه المسيحيون دماءهم. كما كانت الحرب حاضرة في رسالته العامة الأولى، منددا بسقوط القتلى والجرحى.
النداءات العديدة التي أطلقها البابا بندكتس الخامس عشر لصالح السلام لم تلق وللأسف آذانا صاغية. في الرابع والعشرين من أيار مايو ١٩١٥ دخلت إيطاليا الحرب، بعد أن ظلت محايدة لسنة تقريبا. وفي اليوم التالي عبر البابا عن مراراته لعدم التجاوب مع دعواته المتكررة من أجل السلام. وكتب أن الحرب ما تزال تدمي أوروبا شاجباً اللجوء إلى أسلحة تتعارض مع الشرائع الإنسانية والقانون الدولي. ولفت إلى أن نيران الحرب وصلت إلى إيطاليا معربا عن خشيته على مصير هذا البلد.
في الثامن والعشرين من تموز يوليو ١٩١٥، في الذكرى السنوية لاندلاع الحرب، توجه البابا إلى الدول المتقاتلة مناشداً إياها وضع حد للصراع، الذي وصفه بالمجزرة الرهيبة. وفي خطاب ألقاه أمام مجمع الكرادلة، في العام التالي، تحدث عن أهمية تحقيق سلام عادل ودائم، يضع حداً لأهوال الحرب. وفي عام ١٩١٧ وجه رسالة إلى قادة الدول المتحاربة داعيا أيضا إلى وقف الحرب، التي قال إنها “مجزرة لا جدوى منها”، وطالبهم بتحمل مسؤولياتهم أمام الله وأمام البشر.
في عام ١٩١٨ انتهت الحرب العالمية الأولى، وفي الأول من كانون الأول ديسمبر من ذلك العام أصدر بندكتس الخامس عشر رسالة عامة كتب فيها أنه جاء اليوم الذي انتظره العالم كله بلهفة، والذي صلى المسيحيون من أجله بحرارة، إذ سكتت الأسلحة. في العام التالي افتُتح في باريس المؤتمر الدولي من أجل السلام وتمنى البابا للمناسبة أن يتم تبني قرارات ترتكز إلى مبادئ العدالة المسيحية. وذكّر بأن الكاثوليك بنوع خاص مدعوون للعمل من أجل النظام والتقدم المدني، وللصلاة على نية مؤتمر باريس.
على الرغم من نهاية الحرب العالمية الأولى لم يُخف البابا بندكتس الخامس عشر مرارته إزاء الأحقاد التي ما تزال تفصل بين الشعوب. وفي رسالة عامة أصدرها عام ١٩٢٠ كتب أن نور السلام بدأ يشرق على الشعوب لكن ما تزال توجد بذور العداوات القديمة. وأكد أن السلام لا يمكن أن يتحقق إن لم تُستأصل الأحقاد من القلوب من خلال مصالحة ترتكز إلى المحبة المتبادلة. وتحدث عن وجود آفات كثيرة ما تزال تعاني منها الأمم. وذكّر في العام التالي بالبؤس واليأس السائدين في النمسا، ووجه فكره أيضا إلى الشعب الروسي الذي كان يعاني من الجوع والأوبئة.
وقد صب بندكتس الخامس عشر اهتمامه على تحقيق المصالحة داخل المجتمع الإيطالي، في أعقاب التوترات السياسية التي كانت سائدة آنذاك، وطلب من المؤمنين – في عام ١٩٢١ – أن يرفعوا الصلاة إلى الله ويطلبوا منه أن يمنح إيطاليا هبة المصالحة الوطنية والوفاق. أصيب البابا بالتهاب القصبة الهوائية والرئتين وفارق الحياة في الثاني والعشرين من كانون الثاني يناير ١٩٢٢.
يوجد اليوم في باحة كاتدرائية الروح القدس في اسطنبول تمثال للبابا بندكتس الخامس عشر، وُضع تقديراً لالتزامه لصالح السلام إبان الحرب العالمية الأولى. وتبين لاحقا – استنادا إلى أرشيف البعثة الدبلوماسية البابوية في إسطنبول – أن هذا الحبر الأعظم طلب من البعثة أن تتدخل لدى الجيش الفرنسي، للمطالبة بمعاملة الأسرى الأتراك بطريقة إنسانية، وعدم الثأر منهم. كما أمر بفتح مستشفى يعتني بهؤلاء الأسرى المصابين