نورسات الاردن: بقلم المطران جورج خوام
بِتْنا نقترب، أيّها الأحبّة في الربّ، الأسبوعَ تِلْو الأسبوع، من زمنٍ ندعوه، في لغة ليترجيّتنا البيزنطيّة، زمن التريوذي. لن أتطرّق اليوم إلى معنى هذه اللفظة، ولا إلى اختيار الكنيسة إيّاها، ولا إلى المقصد من إدراج هذه الفترة، بالتحديد، في ثنيّة مدار السنة، ولا إلى أبعادها الروحيّة. بل سأترك هذه النقاط كلّها جانبًا، في الوقت الحاضر، إلى حين آخر، على أمل أن أعود بها إليكم، في حديث لاحق، بإذن الله، الذي يحبُّنا محبّةَ الآب لأبنائه. لكنّي أنوي أن أتوقّف رغم ذلك، بعض الشيء وإيّاكم، أمام حدث اللقاء، الذي يروي لنا الإنجيليّ لوقا أحداثه، فأتأمّل معكم في بعض جوانبه، علّ تأمّلنا في كلمة الإنجيل يشرق في زاوية من زوايا حياتنا، ويضيء ما بداخلها، منيرًا الجوانب، التي تكون فيها ظلمة، فنرى، بعد هذا، ما يتكدّس فيها.
جرى اللقاء بين زكّا، ومعنى اسمه الطاهر، وهو اسم متداوَل، بين الناس، حتّى يومنا الحاضر، وبين يسوع، الذي يعني اسمه “المخلّص”، بالقرب من مدينة أريحا، بينما كان يسوع يهمّ في الدخول إليها. الأحدَ الفائت، عرض الإنجيليّ لوقا نفسُه علينا مجريات لقاء آخر، بالقرب من مدخل المدينة، لقاءٍ جَمَعَه مع أعمّى كان جالسًا، على قارعة الطريق، يتسوّل؛ وشفاه يسوع. وفي أحد اليوم، ها نحن أمام مشهد لقاء، يعتلي فيه رجلٌ شجرة، على قارعة الطريق، أيضًا، بسبب الجمع الذي كان يزحم يسوع، من كلّ جانب، وهو يسير، بخطًى ثابتة، نحو المدينة، يريد دخولها. لقاءان، إذن، اثنان، حدثا، عند مدخل مدينة أريحا، يروي الإنجيليّ لوقا مُجرياتِهما لنا. وتختار الكنيسة أن نسمع ما جرى فيهما، بينما نتقدّم نحن، الأحدَ تلو الأحد، صوب الصوم. فهل بينهما رابطٌ معيّن، وجهُ شَبَهٍ، سواء بالنسبة إلى الإنجيليّ لوقا، أم بالنسبة إلى الكنيسة؟ وإن وُجِد مثلُ هذا الرابط، وهو موجود، فعلًا، فما النفع، الذي يمكننا أن نجنيه، نحن، الذي سمعنا خبر الحَدَثَين، على الصعيد الليترجيّ؟
شفى يسوع الأعمى، كي يشاهد “ابن داود”، على حسب الصراخ، الذي كان يعلو، على فم الأعمى، ولمّا شُفِي هذا من عماه، رأى “ابن داود”، فإذا هو يسوع. نادى يسوع زكّا، الذي لم ينبِس ببنت شفة، لكي ينزل من “أعلى” الشجرة، التي تسلّقها، لأنّه كان قصير القامة، مريدًا أن “يرى” يسوع. ولمّا نزل زكّا، استطاع، لا أن يرى من هو يسوع فقط، بل أن يستضيفه عنده، في بيته، أيضًا. إذ استطاع زكّا أن يلتقي يسوع، وأن يشاهده، ويتكلّم معه، فهو، إذًا، قد شُفِي من عاهة، تضارع عاهة العمى، التي كانت تمنع الأعمى من أن يلتقي بيسوع. وإذ لم ينبِس زكّا بكلمة واحدة، حينما دعاه يسوع إليه، فيما كان الأعمى يصيح بأعلى صوته،: ارحمني…، فإنّ الخطاب، الذي ألقاه زكّا، لمّا استضاف يسوع، ووعد فيه أن يعطي المساكين ممّا استطاع أن يجنيه، هو خطاب مدوّ، لا تنقص لا وتيرتَه، ولا حجمَه، النبرةُ العالية، التي كانت تخالط صياح الأعمى، قبل شفائه. يدلّ على ذلك ما قاله يسوع، حين ردّ بكلمة على خطاب زكّا، كما يقتضي ظرفُ المناسبة، عندما يتناول الكلامَ صاحبُ البيت. أعاد يسوع لزكّا مكانته، التي كان قد فقدها، في أعين سكّأن مدينته، وردّ إليه اعتباره الدينيّ والاجتماعيّ. فإنّه، كما استطاع الأعمى أن يشاهد يسوع، بصراخه، وأن يخالط باقي الناس، بعد شفائه، وأن يسير خلف يسوع، وأن يصبح مقبولاً، بينهم، وأن يستعيد مكانته، كذلك زكّا، استطاع، بفضل توبته، بعد أن ناداه يسوع إليه، أن يستضيف يسوع، عنده، في بيته، وأن يستردّ اعتباره، وأن يفرح باستقبال يسوع. استطاع أن يفرح بشفائه من عاهته، فرح الأعمى بشفائه. أمّا عاهة زكّا، التي برئ منها، فكانت ظلمَه الناس، عن طريق وظيفته. كان زكّا رئيس جباة العُشْر، في مدينة أريحا.
يبدو، أيّها الأحبّة، أنّ الالتقاء بالربّ يسوع لا يتمّ، حقيقة، ما لم يحصل المؤمن به على شفاء. ونحن كلّنا بحاجة إلى ملاقاة الربّ. نحن أيضًا نحتاج إلى أن “نرى” يسوع وإلى أن “نستضيفه”، في بيوتنا، وفي علاقاتنا، وبداخلنا أيضًا. نحن أيضًا نريد أن “نشفى”، وأن نلتقي بيسوع. إنّ اقترابنا من زمن التريوذي هو، ليترجيًّا، زمن العمل، أوّلاً، على الاستعداد اللائق، ثانيًا، للسير مع يسوع، ومشاهدته، واستضافته، ثالثًا.