نورسات الاردن
كان يوم أمس وداع توأم الأبرشية وأَحد كهنتنا الورعين الذي عاش الحبّ لله وعشق الأرض.
وسط جو من الخشوع تخيّم عليه مشاعر الحزن وألم الفراق وتخفف منه سيرة الراحل، أقمنا القداس في كنيسة البلدة. فالقداس هو المشاركة الفضلى في وداع كاهن راحل أتقن الأحتفال به ببساطة الخُدّام الخاشعين.
ثم وقفت مع من توافد من إخوتنا الكهنة الأفاضل نكمّل طقوس الجناز ، دون أن تشغلني المشاركة عن التأمل في سيرة فقيد جليل، هي أكبر من أن تُختزل في سردٍ لتواريخ. ورأيت أن هذا المُسجّى يعطينا درساً كبيراً، ففي حياته كان الرسوخ في الإيمان والأمانة في الخدمة التي نذر نفسه لها.
وأخذني هذا الراشد بعيداً..
في تلك الليلة الماطرة من شتاء عام 1989، جاء خبر وفاة وحيده المرحوم المهندس جهاد بحادث سير. فتوجهّنا على الفور أنا والمرحوم العمّ الأب سليمان حداد من عمان إلى شطنا. دخلنا البيت في مزرعته لنتفاجأنا بصلابة الأب راشد وقوة إيمانه وتماسكه، رغم اللوعة وكل الأسى الذي كان يعتصر قلب الوالد على فقد فلذة كبده
كان راشد أيّوباً آخر..
وعاد من جديد ليكون أباً، هذه المرة لأحفاده أبناء جهاد، فكان لهم نِعم الأب. ورافَقَته وظلّت إلى جانبه، إيقونة الأمومة والوفاء والتضحية والفضيلة “الليدي” أم راشد -وللاسم تريز دلالة هنا- لتكتمل محبتُها ودون تذمّر أو تأفف أو مِنّة، وهي تعتني بابونا راشد في شيخوخته ومرضه حتى يوم الفراق .
+++
شطنا واحدةٌ من قرى شمالنا الجميل التي بقي فيها بعضٌ من هدوء الريف. عند تلالها يتوقف امتداد جلعاد الشمالي فيسمح للواقف هناك أن يسرّح النظر في امتداد سهل حوران. ومن الحصن التي كانت حاضرةَ “بني عبيد” ومقصد الباحثين عن العلم والثقافة، يسلك الزائر لشطنا طريق الكسارات ليصعد اليها.
بالأمس، عاد أبونا راشد الى قريته سالكا تلك الطريق، ليجد فيها مستقرّا له عند واحد من سفوحها، بالقرب من ضريحي وحيده وزوجته الفاضلة “أم جهاد” التي غادرت فتركته أرملاً. وتتجدد آلامه بعد فراقها ، وبعد الحزن على الوحيد جهاد “أبو راشد”.
ويبدأ برحيلها وغيابها فصلٌ من حياته جديدٌ يعيش فيه صبراً أيوبيّا.
ويظلّ أبونا راشد مثالا في التضحية والفضيلة متماسكا صلبا.
قبل أن تتمكّن منه الشيخوخة، كنتُ في كثير من الأمسيات أتلقى مكالماته الهاتفية. فكان يطغى على أحاديثه حبٌّ للأبرشية مشوبٌ بالقلق والتأثر. فتحسّ بذلك الضّيق في صدر الرجل وهو يتحدث عن أبرشية ولد معها في عام واحد ١٩٣٢ . فقد احب الأبرشية التي خدمها. كبُرا معاً. لم يكن طارئاً عليها. ولِد معها ثم صار ابناً لها وخادماً للنفوس فيها، وها هو يغادرها شيخا. ورغم تقاعده وشيخوخته وضعفه، كان مُصرّا على أن يرصد ويراقب كنيسته. كان يشاركني فيسرد تحفظاته، وجميعها تؤكد وفاءه لكنيسة خدم مذابحها متنقلاً بين رعاياها في فترة عرفت ألقاً وبناءً. كان شاهداً على عصرها الذهبي. كانت الغيرة على كنيسته تأكله. كان يحزنه أن يرى التراجع، بل كان يرفض ان يكون تقاعده اخراجا قسريا من دائرة الفعل والرأي والأنتماء.
جاءت كلمات المعلم الإلهي يتلوها ابن بلدته المطران ياسر عياش، الذي حضر من القدس للمشاركة في وداع خوري شطنا: “من يسمع كلامي ويؤمن بمن ارسلني..” . اسقطتُ تلك الكلمات على سيرة “الراشد” الذي سمع تلك الكلمات الإلهية وطبقها وعاشها. لقد فهم أن سماع كلمات السيد له المجد لا يكون بالقلب.
كنت أتأمل النصوص تتلى وتترافق مع شريط حياة الاب راشد.
أذا أردت رُسُلاً لحمل البشارة، فالراسخون في الايمان المحبّون لأبرشيتنا هم الأقدر على حمل الأمانة على مثال حب أبونا راشد. كان “زلمة”. كان قدّيساً بلونٍ شطناوي أردني، يسخَر بالمسلك والمثل الطيّب، من ضجيج من يدّعون في العلمِ فلسفة ً فقد علموا شيئا وغابت عنهم أشياءٌ: النضوج الرّوحي والأمانة لخدمة النّفوس على أرضنا الأردنية.
هذا الراشد الحبيب، الذي تمكّنت منه الشيخوخة ولم تتمكّن من إيمانه ومن حبه لكنيسته والتعلّق بها ولم تبدّد قلقه عليها، أتقن لغتين فقط مكتفياً بهما: الأولى لسانه العربي بقلبه وبلهجته وبروحه الأردنية والثانية هي لغة الحبّ والتضحية. لقد تمرَس “الراشد” في ميدان الجندية.
بالأمس رأيت أمامي في نعشه قامة قديس يصغر أمامها كلّ رثاء ويتضاءل. كان وهو مسجى أمامنا يذكّرنا نحن المشيعين إكليروساً ومؤمنين، أن حقل الربَ بحاجة إلى كهنة قديسين.
في موقف رحيل راشد الشيخ التسعينيّ أَنظر إلى ابرشيتنا التّسعينيّة توأم راشد، فأرى أننا بتمسكنا بالأمانة لشهادتها ولرسالة رأسها المعلم الإلهي وبإرث من سبقونا، لن تشيخَ بل ستكون “كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذلِكَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ.”( أفسس 5: 27).
ليس هذا رثاءً. إنها شهادتي بخط يدي. والذي عاينتُه به أشهد. أما الرثاء البروتوكولي فهو مديح متأخر عن موعده، وسيرة راحِلنا وأمانته، أكبر منه.
“راشدنا” ابو جهاد هو من جيلِ من جاهدوا الجهاد الحسن. هم الذين تعبوا وزرعوا في عهودٍ تكرّست للخدمة وما عرفت إلّا البناء في الأنسان ولأجل الإيمان. وسنفتقده مع مصاف أساقفة وكهنة أكملوا شوطهم وتزيّنوا بحبّهم لخدمة رعيتنا فاستحقّوا كرامة الإنتماء لكنيسةِ شرقِ الأردنّ المقدسة .
احر التعازي لأسرته ولآل سواقد ومونس ولشطنا الجميلة ولنا نحن ابناء كنيستنا الأردنية.
“أهّلهُ ياربّ لبهاءِ القدّيسين وبهجَتِهم في مَلكوتِ السّماوات” .
فليكن ذكره مؤبّداً