نورسات الاردن/ الاب نبيل حداد
يخبرنا إنجيل متّى كيف تعامل المعلّم الإلهي مع ممارسات دينيّة كانت شائعة، جعل منها القادة الدينيون في المجتمع اليهودي ممارسات منفّرة إذ اصبحت أعمالُ الصدقة والصلاة والصوم اشكالاً لعبادة الذات، يمارسونها لكي يراهم الناس ويكيلوا المديح لهم بدلاً من الإكرام لله تعالى وتحقيق مرضاته.
بعد ان علّم تلاميذَه الطريقة الصحيحة في الصلاة “وَمَتَى صَلَّيْتَ فَلاَ تَكُنْ كَالْمُرَائِينَ” ركّز السيد المسيح على الصّوم، موضحاً ان بإمكان المرء ان يصلي بدون صيام، ولكن لا يمكنه ان يصوم بدون صلاة. انهما ممارستان متلازمتان.
وصية الصوم “لا تأكل” تعني حرفياً التخلي عن الطعام، مع التركيز على السعي إلى الله والبحث عنه كهدف وغاية أولى وأكثر أهميةً من الطعام، ليصبح الصوم وسيلة تعزيز حياة الصلاة وعلاقتنا مع الله.
يخبرنا العهد القديم ان الصوم كان شائعاً في اسرائيل، إذ كان يوم الكفارة هو اليوم الوحيد الذي اقترنت به فريضة الصوم. ودعي بنو اسرائيل أن يصوموا فيه ويذلّلوا أنفسهم. “وَيَكُونُ لَكُمْ فَرِيضَةً دَهْرِيَّةً، أَنَّكُمْ فِي الشَّهْرِ السَّابعِ فِي عَاشِرِ الشَّهْرِ تُذَلِّلُونَ نُفُوسَكُمْ، وَكُلَّ عَمَل لاَ تَعْمَلُونَ: الْوَطَنِيُّ وَالْغَرِيبُ النَّازِلُ فِي وَسَطِكُمْ.” (لاويين 16: 29). و«أَمَّا الْعَاشِرُ مِنْ هذَا الشَّهْرِ السَّابعِ، فَهُوَ يَوْمُ الْكَفَّارَةِ. مَحْفَلًا مُقَدَّسًا يَكُونُ لَكُمْ. تُذَلِّلُونَ نُفُوسَكُمْ وَتُقَرِّبُونَ وَقُودًا لِلرَّبِّ.” لاويين 23: 27). واثناء السّبي اضاف اليهود شهوراً محددة للصوم، هما الشهران الخامس والسابع (زكريا 7: 5) . وربما كان ذلك وسيلة للتوسّل الى الله لإعادتهم الى أرضهم. أما في العهد الجديد، فلم يعد هناك “يوم الكفارة”. فالسيد المسيح قد دفع ثمن خطايانا مرة واحدة والى الابد على الصليب.
ذُكِر الصيام في العهد الجديد عدة مرات*، كما مارسه المسيحون الأوائل وربما بالغوا في التشدّد في اتباعه. ومع أننا لم نؤمر مباشرة أبداً بالصوم لكن الجليّ ان السيد المسيح توقّع من المؤمنين ان يصوموا. إذ يقول “«وَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ” (متى 16:6) مشيراً ضمنًا اننا سنفعل كذلك.
لقد أعلن السيد المسيح انه لم يكن من سبب لتلاميذه كي يصوموا اثناء حياته الأرضية. لكنهم فعلوا ذلك بعد موته وقيامته. مثلما فعل العديد من العظام من قبل بما فيهم موسى وصموئيل ودانيال والسيد المسيح نفسه، وكذلك الرسل.
نستمع الى السيد المسيح يصف مسلكنا المطلوب في الصوم، وهو بعيد عن ممارسات المرائين وسلوكهم، إذ كانوا يعمدون الى تنكير وجوههم فيغطونها بالتراب والرماد كي يراهم الجميع وإلى ارتداء اقذر الملابس كمظهر تذلل الأتقياء ليلاحظهم الآخرون. “وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَادْهُنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ، لِكَيْ لاَ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِمًا، بَلْ لأَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً… وَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ.”
كان الفريسيون يصومون في الأسبوع مرتين، يومي الاثنين والخميس. وزعموا ان السبب في ذلك أن موسى في هذين اليومين صعد ونزل من جبل سيناء حين تلقى الشريعة. ولما كان شائعاً في زمانهم ان هذين اليومين كانا ايامًا التسوق، فيهما يحتشد الناس في المحلات والاماكن، فقد توفر فيهما للقادة الدينيين العدد الاكبر من الجمهور كي يروهم. لهذا فقد دعاهم السيد المسيح بالمرائين. وهي كلمة كانت تعني “الممثلين”(الآية 16). فمحور صومهم كان هذا السلوك الاستعراضي ليلقوا المديح. انهم بذلك قد نالوا اجرهم من الناس، لكنهم لم يستحقوا اجراً من الله. هكذا جاء تحذير السيد المسيح لتلاميذه ان لا يكون صومهم كما يفعل المراؤون.
كيف يكون الصيام إذن؟
- ان نحيط صومنا بالتكتّم كي لا نلفت انتباه الآخرين، ليس لأن ضرراً في أن يعرف الآخرون ؛ لكن لأن قلوبَنا أكثر ميلًا إلى الكبرياء الروحي والأرتياح لمدح الآخرين.
- أن نواصل في الصوم تصرفنا الطبيعي كما في كل أيام السّنة، فالسيد المسيح طلب من التلاميذ ان يدهنوا رؤوسهم ويغسلوا وجوههم لئلا يظهروا للناس صائمين
- ان نركّز في الصوم على علاقتنا مع الله وحده وليس على العلاقة مع الآخرين. في الصوم يكون الله تعالى هدفَ صومِنا ونلتمس وجهه الكريم بطريقة فريدة. ومتى فعلنا ذلك، يكافئنا الله تعالى على طاعتنا.
- ان نمارس في الصوم الصلاة الحارة. فالإنسان قادر ان يصلي بدون صيام. ولكن لا يمكن ان يكون صومٌ بدون صلاة. وفي كل رواية كتابية، نجد الصوم والصلاة مرتبطان معًا. فإن لم يكن لنا الوقت الكافي لنقضيه في الصلاة ومن اجل الله وكلمته، فنحن لا نصوم، وانما نمتنع عن الاكل ونمارس الجوع. فيكون صومنا جوعاً دون معنى ولا يحقق لنا فائدة روحية.
- أن نتزيّن في الصوم بطاعة الله تعالى في عيش المحبة بممارسة أعمال الرحمة والبرّ. وليكن البرّ زينةً مصاحِبة لصومنا “اقْضُوا قَضَاءَ الْحَقِّ، وَاعْمَلُوا إِحْسَانًا وَرَحْمَةً، كُلُّ إِنْسَانٍ مَعَ أَخِيهِ. وَلاَ تَظْلِمُوا الأَرْمَلَةَ وَلاَ الْيَتِيمَ وَلاَ الْغَرِيبَ وَلاَ الْفَقِيرَ، وَلاَ يُفَكِّرْ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَرًّا عَلَى أَخِيهِ فِي قَلْبِكُمْ.
- إن السّعي إلى الله بالصوم، أو بأي فعلٍ من أفعال العبادة، مع البقاء بعيداً عن التوبة وفي درب الخطيئة هو سلوك لا قيمة له. بالصوم نحن نطلب الله اولاً وإليه نسعى. اذا ظلّ الاستمرار في الخطيئة والشر نصب أعيننا فنحن نفعل ما كان يفعله الفريسيون. إنه الرياء بعينه.
- أن يقترن الصوم بصلاح سيرتنا. وهذا ما يقوله داود في المزمور “إِنْ رَاعَيْتُ إِثْمًا فِي قَلْبِي لاَ يَسْتَمِعُ لِيَ الرَّبُّ.” (مزمور 66: 18).