نورسات الاردن
ترأس غبطة البطريرك بييرباتيستا بيتسابالا بطريرك القدس للاتين الجمعة ٢٥ آذار مارس في الناصرة القداس الإلهي لمناسبة عيد البشارة. وهذا ما قال في عظته نقلا عن الموقع الإلكتروني للبطريركية:
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
سلام المسيح معكم دائمًا.
في هذه السنة أيضًا نلتقي بأعداد كبيرة أمام سيدتنا مريم العذراء، مريم الناصرة، هنا في بيتها، وفي مدينتها. نلجأ إليها مرة أخرى بالصلاة والاستماع إلى كلمة الله. ومن خلال الكلمة نسألها هي، والدة يسوع، أن تنيرنا لنعيش بروح نقية هذه الأوقات التي امتلأت من جديد بالعنف والألم.
في نهاية هذا الاحتفال، سننضم إلى الأب الأقدس البابا فرنسيس، لنكرِّس لقلب مريم الطاهر شعوب روسيا وأوكرانيا. شعبان أخوان، في حالة حرب بينهما، حرب عملاق ضد قزم، ومآسٍ بشرية عميقة، تترك خلفها ركامًا روحيًا وماديًا هائلًا. هنا في الأرض المقدسة نعرف ما هي الحرب، وكيف تدخل في قلوب الناس وتصبح طريقة تفكير وتخلق الانقسامات العميقة والإحباطات وتقيم الجدران المادية والبشرية، وتدمر آفاق الثقة والرؤية والسلام. لهذا السبب بالتحديد، لأننا نعرف ما يعنيه كل هذا، لأننا اختبرناه في أرواحنا وأجسادنا، لذلك نصلي من أجل تلك الشعوب، ومن أجل حكامها، وخصوصًا من أجل صغار الإنجيل، الأمهات، والأطفال، وكبار السن، الذين أصبحوا من دون بيت، وحيدين، تحت رحمة عنف لا معنى له، تمليه حسابات بشرية قصيرة النفس، وقصيرة النظر. لتشفع بهم عذراء الناصرة، التي صارت هنا أم يسوع، لتشفع بجميع الذين يعانون في العالم من الأوضاع نفسها.
نقرأ في كل سنة إنجيل الناصرة، بشارة الملاك. في كل سنة، هذا الإنجيل يخاطبنا كما لو كنا نسمعه للمرة الأولى. تسير كنيستنا الآن في مسيرة سينودية، ومن أهم مواضيعها: الإصغاء. عند هذا أريد اليوم أن أتوقف. إنه أول درس لما أسماه البابا القديس بولس السادس “مدرسة الناصرة”، درس في الإصغاء.
أصغت مريم العذراء إلى صوت الملاك، وقبِلَت بما طلبت منها السماء. وبعد مريم، قبِلَ يوسف أيضًا ما بلَّغته السماء في الحلم. كانت طلبات مدهشة، يصعب فهمها، تتعارض مع كل عادات ذلك الوقت، وتعارض طريقة التفكير، وتتعارض مع كل عقلانية بشرية، فتترك السامع في حيرة كبيرة. ومع ذلك، لم تتردد مريم العذراء في قول “نعم”. وافقت على أن تكون جزءًا من مشروع لم تكن تعرف عنه شيئًا، وآفاقُه المستقبلية مجهولةٌ لها. بعد مريم العذراء، كانت هذه أيضًا تجربة أشخاص عديدين راهنوا على السير مع الله، ووافقوا على أن يكونوا جزءًا من مشروع لم يكونوا يعرفوه في العمق. لكنهم وثقوا، وعرفوا أن يتركوا كلمة الله التي أصغوا إليها تغلبهم، من دون حسابات بشرية كثيرة.
الإصغاء هو أكثر من السمع. الإصغاء يعني الانفتاح على الآخر، وإفساح المجال للآخر في داخل النفس، في طريقة التفكير، وفي الأشياء التي يجب القيام بها، وفي وجهات النظر التي يجب تبنِّيها. الإصغاء يتطلب موقفًا فيه ثقة وحرية ومجّانيّة. هو بمعنى ما، الدعوة إلى أن تكون أمًّا، أي أن ترحِّبَ في ذاتِكَ بحياة شخصٍ آخر.
معظم أزماتنا، على جميع مستويات الحياة الاجتماعية، تتوقف على هذا تحديدًا، على الصعوبة في الإصغاء بعضُنا لبعض: في السياسة، يَصِيح الواحد ضد الآخر، وعندما يصيح فهو لا يصغي. يحدث هذا في كل مكان تقريبًا في العالم. ووسائل الإعلام تُظهِر لنا ذلك اليوم في روسيا وأوكرانيا، لكننا نعلم أنه يحدث أيضًا في إفريقيا وآسيا وبلدان أخرى كثيرة. وهنا في الأرض المقدسة أيضًا، الطريق أمامنا طويل لنتعلّم كيف نصغي حقًا بعضُنا إلى بعض، العربُ واليهود، وعلى سبيل المثال، بين الأجيال المختلفة، وبين المجتمعات الدينية المختلفة التي يتكوَّنُ منها مجتمعُنا.
نحتاج في كنيستنا أيضًا إلى مزيد من الإصغاء بعضُنا إلى بعض، وقد قلنا الكثير في هذا في مسيرتنا السينودية: الإصغاء بين الكهنة والعلمانيين، بين المؤسسات الدينية والجماعة المسيحية عامة، وفي عالم مدارسِنا. توجد المشكلة أيضًا في عائلاتنا: بين الآباء والأبناء، وبين الأزواج … يمكنني الاستمرار في سرد صعوبات الإصغاء في مختلف مجالات حياتنا. الزمن الذي نعيشه، في الواقع، زمَنٌ جَشِع، يمتَصُّ كلَّ طاقاتنا. كلنا منشغلون جدًا، مليئون بالأشياء التي يجب تتميمُها، والالتزاماتُ التي يجبُ القيامُ بها، وجميع أنواع الهموم، لدرجة أننا لا نجد الوقت والمكان لبعضِنا البعض، وأحيانًا لا نجد وقتًا حتى لمن نعيش معهم. وشيئًا فشيئًا، نُوشِكُ أن نصير غرباءَ بعضُنا لبعض. تذكِّرُنا سيدتنا مريم العذراء اليوم بأن الإصغاء، أي إفساحَ المجال للآخر، ومحاولةَ فهمِ وجهةِ نظرِه، ليس وقتًا ضائعًا على حساب الأشياء التي يجب القيام بها، بل هو بالأحرى العمل الأول الذي يعطي معنًى ومضمونًا لحياتنا اليومية، ويعطي أبعادًا حقيقية لمضمون حياة الإنسان، ويُغنِينا بعلاقات حقيقية تبني المستقبل. وعكسَ ذلك، كم من سوء الفهم والشعور بالوحدة ينشأ عندما لا نكون قادرين على الترحيب والإصغاء بعضُنا إلى بعض!
نصغي بثقة عندما نُحِبّ. قالت مريم العذراء، مريم الناصرة، قالت “نعم” للملاك بثقة، لأن الألفة مع الله لم تكن غريبة عليها، كان إيمانها راسخًا. لم يأتها طلبُ الملاك من عالم مجهول، بل أزهر في داخل علاقة قائمة من قبل، من إيمان قوي كانت تعيشه. قبل أن يقيم الكلمة فيها جسديًا، كان حب الله الآب مقيمًا في مريم، وهو الذي كان يبيِّن لها معنى خياراتها ويوجِّهُها. قبِلَت مريم العذراء أن تشارك في خطة الله، وأن تصبح جزءًا من تاريخ الخلاص، لأنها عرفت، مِن قبل، تاريخَ الخلاص. وعرفَت أ، طلبَ الملاكِ الغريب كان يمكن أن يتحقق، لأنها كانت تعلم من قبل أنْ “لا شيءَ مستحيلٌ عند الله” (لوقا ١: ٣٧). لذلك، كانت الثقة جوابَ حُبٍّ من مريم، كان قبولُها للبقاء في العلاقة مع الله الآب، ولو بطريقةٍ جديدة تمامًا وغيرِ عادية وغيرِ مسبوقة.
لذلك فإن الإصغاء، وقول “نعم” لله، هو قبل كل شيء طريقة حياة. إفساح المجال للآخر يعني أولاً الرغبةَ في حبه. إن كنتَ تحِبّ، يمكنك المراهنة على منى تحِبّ، ويمكن المغامرة، وإعطاء الثقة. الإيمان والإصغاء ضروريان الواحد للأخر.
لا يمكننا أن نثق بالله، وفي الوقت نفسه، لا نثق بالإنسان. لا يمكننا أن نقول إن لدينا إيمانًا بالله، ثم نخافُ المغامرةَ بعلاقاتنا البشرية، في السياسة، وفي الكنيسة، وفي الأسرة، وفي كل مكان.
لعل هذا ما يخيفنا في زمننا هذا. أن نقول “نعم” للحياة حتى النهاية، من دون خوف، مجَّانًا. سيكون هناك أسباب كثيرة لنعتقد بأن الأمرَ غيرُ ممكن. في الواقع، كثيرة هي الأسئلة والمخاوف التي تَسكُن قلوبَنا: “كيف نفكر في تكوين أسرة جديدة عندما نرى الكثير من الأزمات العائلية من حولنا؟ كيف نراهن على السلام عندما نرى حروبًا كثيرة في العالم؟ كيف يمكننا العمل من أجل العدل والمساواة وهناك أشكال عديدة من التمييز التي يبدو أنها لا تنتهي أبدًا؟ “. من يدري كم وما هي الأسئلةُ مثلُ هذه الموجودةُ في قلب كل واحد منا.
تذكِّرنا مدرسة الناصرة اليوم بأن المخاوف لم تبنِ شيئًا قط، بل على العكس إنها تدمر. إنها تعلِّمنا أن نثبت في حياة العالم واثقين بخطة الله الذي يريد خلاصنا، لكنه يحتاج إلى حبنا، إلى قولنا “نعم” لتحقيق ذلك، تمامًا كما احتاج إلى قول “نعم” من مريم العذراء. نحن نعلم أن الشر لن يختفي لكن لن يكون له أيُّ سلطان على من يؤمن بالله. يحتاج العالم اليوم إلى رجال ونساء لا تزال لديهم الشجاعةُ للمراهنة على العمل مع الله، والالتزام مع ذلك في حياة العالم. مِثلَ مريم ويوسف وكثيرين غيرهم في التاريخ، الذين لا يخافون من أشراك الشر والخطيئة. نحن بحاجة إلى كنيسة، تكون مكان حضور الكلمة: لتمنحَه للعالم بمحبة، وتعملَ من أجل العدل، وتجعلَ من نفسها صوتَ الفقراء، قادرةً على الإصغاء إلى صراخ جميع الصارخين في أوكرانيا، وفي روسيا، وفي الأرض المقدسة وفي سائر العالم، والمنتظرين كلمةَ حق وأعمالًا تصنعُ العدل. باختصار، نحتاج إلى كنيسةٍ تعرف أن تدافع عن حقوق الله التي هي في الوقت نفسه حقوق الإنسان.
سيدتُنا مريمُ العذراء، عذراءُ الناصرة، لتتشفَّع بنا جميعًا، بعائلاتنا، بشعوب الأرض المقدسة. ومرة أخرى، لنُصَلِّ ولنَضَعْ بين يديها شعبَيْ روسيا وأوكرانيا، حتى يعودوا ويُصغِيَ أحدُهما إلى الآخر، وحتى تساعدهما في إعادة بناء علاقات الثقة بينهما، التي بدونها لن يكونَ هناك مستقبل. لتحمِلْ التعزيةَ إلى جميع الذين هم الآن في الآلام والدموع، ولْتمنَحْ القوة لجميع الذين يعملون في تلك البلدان وفي جميع أنحاء العالم من أجل العدل والسلام. آمين