نورسات الاردن
ترأس غبطة البطريرك بيير باتيستا بيتسابالا بطريرك القدس للاتين قداس عيد الفصح المجيد بحسب التقويم الغربي وسط حضور حافل من المؤمنين الذين احتشدوا في كنيسة البطريركية اللاتينية في القدس . ووجه غبطته عظة روحية لهذه المناسبة العطرة وقال فيها :
الإخوة والأخوات الأعزاء
المسيح قام حقا قام. هللويا.
اجتمعنا في هذا الأسبوع المقدس كل يوم حول قبر المسيح الفارغ. واليوم نحن هنا أيضًا للاحتفال بانتصاره على الموت، ولنعلن مرة أخرى للعالم كله أن الموت، وكلّ أعوانه، لم يعد له سلطان.
لكن نريد أن نسأل أنفسنا الآن ما الذي فهمناه وماذا تركت فينا الشعائر الكثيرة المليئة بالمعاني التي رافقتنا في هذه الأيام؟ كل شيء يكلمنا على العيد، والاحتفال، وعلى شيء مختلف وخاص، مبهج وفريد. من المؤكد أن عيد الفصح في القدس هو كل هذا. وفي القدس، كما في كل أنحاء العالم، يُوضع اليوم أمام ضميرنا السر الأكبر، جوهر إيماننا: القيامة. يقول لنا الرسول بولس: “إن كان المسيح لم يقم، فبشارتنا باطلة وإيمانكم أيضا باطل” (١ قورنتس ١٥: ١٤). واليوم أيضًا يوجِّه إلينا يسوع السؤال الذي طرحه على مرثا، والذي سمعناه قبل أيام: “أنا القيامة والحياة … هل تؤمنين بهذا؟” (يوحنا١١:٢٥-٢٦).
ماذا صنعنا بهذا السر؟ إلى أي مدى إدراكنا أن المسيح مات ثم قام حيًّا بدَّل حياتنا، وأثَّر فيها؟ إلى أي مدى، ما نعلنه وما نبشر به، هو وعيٌ وحياة فينا؟
لربما اعتدنا فكرة القيامة، لدرجة أننا لم نعد ننتبه كم هو صادم معنى هذا القبر الفارغ. ومع ذلك، لو فكرنا في الأمر، لوجدنا أن الاعتقاد بإمكانية وجود قيامة، هو، وفقًا للمعايير البشرية، جنون.
توجد اليوم أيضا محافل حديثة (راجع أعمال الرسل ١٧: ٣٢)، وسياقات مختلفة ترحب بنا نحن المسيحيين، وتستمع إلينا وتبحث عنا، وتقدِّر نشاطاتنا وتطلبها. لكن في الوقت نفسه، حيث لا يُفهَم ولا يُقبَلُ نبأ المسيح القائم من الموت، لا يَهمُّهم الأمر، ولا يرون فيه أية فائدة. ومع ذلك هذا هو إيماننا.
هذه هي بشارتنا: ” إنه ليس ههنا، فقد قام كما قال. تعاليا فانظرا الموضع الذي كان قد وُضِعَ فيه” (حتى ٢٨: ٦).
إنه سر لا يقدر عقلنا أن يفهمه ولا أن يفسِّرَه. يمكن فقط قبوله وحفظه في القلب، بثقة ومحبة.
“حينئذ دخل أيضًا التلميذ الآخر وقد وصل قبله إلى القبر، فرأى وآمن” يوحنا ٢٠: ٨). الفعل “رأى” في إنجيل يوحنا يعني “اختبر”. إنها رؤية تحرِّك جميع الحواسّ وليس البصر فقط. القلب يرى أيضًا. ونحن بقلب مؤمن، نثني ركبنا أمام سر هذا القبر الفارغ، ومع الإنجيلي مرقس، نقول: “آمنَّا، يا رب، لكن شدِّدْ إيماننا الضعيف!” (مرقس٩: ٢٤). نحن هنا نؤكد، بالرغم من حدودنا وكل ما يهدِّد أمننا، نعم، نؤمن.
نؤمن أن الفصح هو تدخّل الله الأخير والنهائي، في التاريخ، من أجل الجميع. هو أقل ما كنَّا نتوقعه، وأكثر ما يدهشنا. إننا نؤمن أنه بعد أن خلَّصنا من اللاشيء، والعبودية، والمنفى، بقي على الله أن يخلصنا من عدو أخير، وهو الموت أي الخطيئة. نحن نؤمن ونعلن اليوم أن الموت هو كل مكان الله فيه غائب، حيث الإنسان وحده لا علاقة له مع الله: هذا هو الفشل الحقيقي في الحياة. الحياة، في الواقع، تفقد معناها ليس عندما ينقصنا شيء ما أو عندما نختبر الألم، ولكن عندما يغيب الله عنا، لأننا بدونه نكون وحيدين. الموت هو حيث لم يعد الله هو ينبوع الحياة، وحيث نصبح غير قادرين لأن نترك له مكانًا.
واليوم نحن نؤمن ونعلن أن الله الآب، في المسيح القائم من بين الأموات، قد اتخذ مكانًا لنفسه في حياة كل واحد منا، وإلى الأبد. القيامة هي تدفُّقُ حياته في حياتنا. اليوم نحن نقول إننا نؤمن بكل هذا. نؤمن أن ملء العلاقة بين الآب والابن، التي نراها منذ صباح عيد الفصح، هي أيضا علاقة معنا. نؤمن أنه لا يوجد مكان في حياتنا، وفي تاريخنا، لا يمكن أن لا يكون فيه مكان لله، ولا يمكن ألا يكون مكانًا للقاء معه. لا يوجد مكان في حياة كل واحد منا لا يمكن أن يكون الله فيه حاضرًا.
هذا الإدراك لا يجعلنا مستثنَيِين من تجربة الشدائد والألم والظلام. كل هذا يبقى، لكنه لم يعد عقابًا: في كل حالة من هذه المواقف، يمكن أن نثق أنَّ الله معنا، وأنه في هذه الحالات أيضًا، يمكنه أن يستخرج الحياة.
لنفكِّرْ لحظة في كل أوضاع الموت التي تحيط بنا: يكفي النظر حولنا، لنجدَ أسبابًا للقلق وللشعور بأن الموت يغمرنا، وينتصر علينا ويشدِّدُ شوكته علينا. (راجع ١ قورنثس ١٥: ٥٥). لنفكر في الأوضاع الرهيبة التي توجد في أنحاء كثيرة من العالم اليوم: هنا في الأرض المقدسة، وهناك في أوكرانيا، وفي اليمن، وفي بعض بلدان أفريقيا وآسيا … الحياة التي نحتفل بها هنا اليوم، تُحتقَر وتُسحَق كل يوم، بغطرسة وقسوة شديدة، في أماكن أخرى. لكنّا نختبر أيضًا حالات الموت والألم والوحدة في داخل كل واحد منّا، وفي علاقاتنا، وفي عواطفنا، وفي جماعاتنا، وفي حياتنا اليومية. ولنفكِّرْ أيضًا في المآسي التي خلَّفها الوباء.
ومع ذلك، لا نتوهَّمْ فنخلِطَ بين القيامة والانتعاش، والعودة إلى الحياة الطبيعية، ولا حتى مع حل النزاعات مهما كان نوعها. باختصار، القيامة ليست رمزًا عامًا أو مرجعية عامة للسلام والوئام. إنما هي، كما قلنا، تدفق حياة الله في حياتنا، وينبوع مغفرة، والجواب على وحدتنا، وتحقيق حب الله للإنسانية وإرادته لتكون واحدة. فقط اللقاء مع المسيح القائم من بين الأموات يمكن أن يحقق فينا القيامة الحقيقية، وملءَ الحياة، التي تسمح لنا بأن نبقى في العالم ممتلئين بحماس وقوة الأشخاص الأحرار الذين افتداهم يسوع المسيح. في القراءة الثانية اليوم من الرسالة إلى أهل قولوسي، في الآية الثانية، عبارة تقول: “اطلبوا الأمور التي في العلى”. اطلبوا وتذوَّقوا الأمور التي في العلى! هذا يعني أننا يجب أن نتجذَّر هنا في هذه الأرض، منغرسين فيها ومتجسدين، فنحِبَّ حبًّا شديدًا هذا العالم الذي أعطانا إياه االله، ونحبّ الإنسان الذي يسكنه، لكن يجب أن نطلب في الوقت نفسه ذوق أمور أخرى، ذوق القيامة، ذوق الذين لا ينتمون إلى الموت، بل إلى حرية لا يمكن أن ينتزعها أحد منهم، الذين ينتمون إلى رب الحياة وأبينا، الذي لا سلطانَ للموت أمامه.
لذلك لا نتراجَعْ، ولا ننغلِقْ على أنفسنا في مخاوفنا. ولا نسمَحْ للموت والخاضعين له بأن يخيفونا. وإلا صارت حياتنا إنكارًا لإيماننا بالقيامة!
ولا نقتصِرْ حتى على تكريم هذا القبر الفارغ أيضًا. “اذهَبْنَ وقُلْنَ لتلاميذه ولبطرس: إنه يتقدَّمُكم …” (مرقس ١٦: ٧). القيامة هي إعلان فرح جديد ينفجر في العالم، ولا يمكن أن يبقى سجينًا في هذا المكان، لكن من هنا، اليوم أيضًا، يجب أن يصل إلى الجميع، في كل مكان في العالم ، في كل بقاع الأرض.
من هنا إذن، من القدس، أمام هذا القبر الفارغ، نعلن لهذه الكنيسة وللعالم أجمع، بَشرَى السلام الحقيقي الذي انبثق من هنا، ونريد أن يصل إلى كل بقاع الأرض. المسيح قام حقا قام. عيد قيامة مجيدة.
وكل عام وأنتم بخير.