نورسات الاردن
في مثل هذا اليوم المقدّس، أسّس الربُّ يسوع سرَّ القربان، المعروف بسرّ الإفخارستيا، أي صلاة الشكر والبركة حيث يقدِّم ذاتَه، جسده ودمه، ذبيحة فداء عن خطايا البشر، ووليمةً روحيّة لحياة العالم، مستبقاً موته على الصليب لفدائنا وقيامته لتقديسنا. وأسّس مع الإفخارستيا سرّ الكهنوت، وأنشأ كنيسته التي تولد من سرّ قربانه لكي تصنعه باستمرار بفعل الروح القدس، فتتحقّق الآن وهنا، في كلّ قداس، ذبيحة الجلجلة ووليمة العلية، وتفيض النعم السماوية
وقبل هذا التأسيس وهذا الإنشاء، قام بغسل أرجل التلاميذ، كهنة العهد الجديد، ليعطي معنى للهوية الكهنوتية ولرسالة الكنيسة، في ضوء سرّ القربان. وهو خدمة المحبة بتجرّد وتواضع وبذل
لقد اخترْنا، لتمثيل التلاميذ الاثني عشر، شهوداً للإيمان، في سنة الإيمان التي نعيشها. وهم يمثّلون كهنة ومكرّسين ومُسنِّين ووالدين ومعوَّقين وشباباً. إنّني أحيّيهم باسمكم جميعاً، كما أحيّيكم أنتم الحاضرين معنا اليوم. ونرجو أن تنطبع ذكرى هذا الاحتفال ومعانيها في قلوب الجميع، وأن ننال كلّنا ثمار هذا العيد
يتضمّن احتفالنا ثلاث محطّات: الغسل، وذكرى تأسيس سرَّي الافخارستيا والكهنوت، والسجود للربّ في القربان المقدّس
مع العشاء الأخير، أتت “ساعة” يسوع، وهي ساعة عبوره من هذا العالم إلى الآب، وساعة حبّه حتى النهاية. ولا فصل بينهما. فالحبّ نفسه هو عمليّة العبور والتغيير والخروج من حدود الفردية المغلقة إلى مساحة الحبّ الإلهي الشامل. “ساعة” يسوع هي ساعة العبور الكبير، ساعة التغيير والتطوّر في الكيان الشخصي الذي يحصل بواسطة الحبّ حتى النهاية، وقد تجلّى في ذروته على الصليب، حيث بذل الربّ كلّ ذاته حتى الموت وقال: “لقد تمّ كلّ شيء” (يو19: 20
خروج يسوع من العالم هو في الحقيقة عودته إلى الآب الذي منه خرج. خروج من الآب ورجوع إليه. خروج يسوع من الآب عملية حبّأنزلته إلى الخليقة حبّاً بالنعجة الضالّة، فضمّ إلى قلبه البشرية كلّها. وبرجوعه إلى الآب حمل معه كلّ طبيعته البشرية، والبشرية بأسرها، ورجع معه “كلّ جسد”. الجديد في رجوعه أنّه لا يرجع وحده بل يجتذب الجميع إليه (راجع يو12: 32). “عبوره” يتّصف بالشمولية. عندما أتى من الآب، “لم يقبلْه أهلُ بيته” (يو1: 11)، أمّا هو فأحبّهم حتى النهاية (يو13: 1). لقد جمعهم كعائلة الله الكبيرة، وجعل الغرباء خاصّته.
ولشدّة حبّه المنطلق من الذات إلى الآخر، قام عن العشاء، قبل أن يرسم تلاميذه كهنة للعهد الجديد، ويؤسّس سرّ الإفخارستيا، ذبيحة جسده ودمه ووليمة الحياة الجديدة، وقبل أن يُنشئ الكنيسة المولودة من هذا السرّ، فغسل أرجل التلاميذ. وخلافاً لآدم – الإنسان الذي مدّ يده إلى ما هو إلهي، نزل يسوع من ألوهيته وصار إنساناً، كما كتب بولس الرسول إلى أهل فيليبي: “تجرّد من ذاته، متّخذاً صورة عبد، وصار على مثال البشر، وظهر في هيئة إنسان. فواضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب” (فيل2: 6-8). في فعل رمزي تاريخي، كشف يسوع كلّ خدمته الخلاصيّة. فنتخيّله الآن: بتجرّد من بهائه الإلهي، يجثو أمامنا، إذا جاز القول، يغسل أرجلنا وينشّفها، لكي يجعلنا أهلاً للمشاركة في وليمة عرسه الإلهي. إنّه يغسلنا هذه المرّة بدمه المراق على الصليب، حسسب رؤيا يوحنا: “هؤلاء اللّابسون الحلل البيضاء هم الذين أتوا من الشدّة الكبرى، وقد غسلوا حللهم وبيّضوها بدم الحمل” (رؤيا 7: 13-14). غسلُ أرجل التلاميذ تعبير عن حبّ يسوع حتى النهاية، حبّ ينقّينا، يغسل قلوبنا، يُخرجنا من الكبرياء، وينقّينا لكي نرى الله؛ وقد قال في إنجيل التطويبات: “طوبى لأنقياء القلوب فإنّهم يعاينون الله” (متى5: 8
بعد أن غسل يسوع أرجلهم قال: “أنتم الآن أنقياء” (يو13: 10)، لقبول سرّ الكهنوت، ولتناول جسد الربّ ودمه، وللوقوف في حضرة الله. لكنّه استثنى واحداً بقوله: “ولكن لا كلّكم” (يو13: 10). ويضيف يوحنا الرسول في روايته: “فقد كان يعرف من سيسلمه” (يو13: 11). وللحال كانت خيانة يهوذا بن سمعان الاسخريوطي، فقام عن العشاء وخرج ثمّ عاد ليلاً إلى حيث كان يسوع في بستان الزيتون، وأسلمه للحرس (راجع يو18: 1-2
قبل ذلك أسّس الربّ يسوع سرّ الإفخارستيا وناول تلاميذه: “خذوا كلوا، هذا هو جسدي. خذوا اشربوا، هذا هو دمي” (متى 26: 26 و28). ثمّ رسمهم كهنة وقال: “إصنعوا هذا لذكري” (لو22: 19). يومها بدأ كهنوت العهد الجديد، الذي يُنقل من جيل إلى جيل حتى يومنا وإلى نهاية العالم
إنّنا نهنّئ كلّ كهنة الكنيسة بعيد تأسيس كهنوتهم، وندعوهم لرفع صلاة الشكر للمسيح، الكاهن الأزلي، الذي أشركنا بكهنوته، ونحن على غير استحقاق. لكنّه يعضدنا بنعمته. وفي كلّ مرّة نشعر بضعفنا أمام قدسيّة كياننا الكهنوتي وعظمة رسالتنا وخطورتها، يهمس لكلّ واحد منّا، كما فعل مع بولس الرسول: “تكفيك نعمتي” (2كور12: 9). أجل، نحتاج نحن الكهنة إلى نعمته لكي نلبّي دعوته لنا: “إصنعوا هذا لذكري” (لو22: 19): نقيم ذبيحة جسده ودمه ونتناولهما لنيل الحياة الجديدة. ونقتدي به، فنكون على مثاله “كاهناً وذبيحة من أجل الجميع” بروح الخدمة والتفاني والمثل الصالح
يُسمّى الخميس المقدّس “خميس الأسرار”، لأنّ فيه أنشئت أسرار الخلاص السبعة، التي هي ينابيع تتدفّق على العالم من ذبيحة المسيح ابن الله وقيامته. فإحياءً لهذه الأسرار، احتفلنا صباح اليوم بقداس تكريس الزيوت المقدّسة: زيت المعمودية والميرون، وزيت مسحة المرضى. هذه نستعملها في أربعة أسرار أساسية: المعمودية التي تُشرك المعمّدين بكهنوت المسيح، والتثبيت الذي يجعلنا فيه الروح القدس مسيحيين في كياننا الداخلي؛ والكهنوت بكلّ درجاته الذي يتواصل فيه كهنوت المسيح وسلطانه ورسالة الخلاص؛ ومسحة المرضى التي تقدّس آلامنا وتشفي نفوسنا وتؤهّلنا لرؤية وجه الله السعيدة. رمزية هذا الاحتفال الذي يحتفل به البطريرك بمشاركة السَّادة المطارنة والكهنة والشعب المؤمن، إظهار وحدة الكنيسة، التي يضمنها البطريرك لكنيسته، حول المسيح “الراعي الحقيقي وحامي نفوسنا
في هذه اللّيلة المقدّسة، ليلة الجمعة العظيمة، نتذكّر صلاة الربّ يسوع برفقة بعض من تلاميذه وسهرهم، وآلامه النفسية، في بستان الزيتون، واستعداده لاتمام إرادة الآب السماوي بقبول آلام الفداء والموت على الصليب، تكفيراً عن خطايا البشر، ولاستحقاق الغفران والمصالحة من رحمة الله اللامتناهية. فإحياء لهذه الذكرى نعرض، في ختام هذا الاحتفال، القربان المقدّس على مذبح جانبي، بشكل محتجب، يذكّرنا باحتجاب يسوع في بستان الزيتون. نسجد له ونعبده ونسهر معه، وكذلك يفعل جميع المؤمنين والمؤمنات في الكنائس والأديار والمؤسّسات، فيما الكهنة يؤمّنون خدمة سرّ التوبة، وسماع الاعترافات استعداداً لعيد الفصح، حيث نعبر بالمسيح إلى حياة جديدة، بقيامة القلوب
فليكنْ هذا اليوم المقدّس المملوء من محبّة المسيح لنا والمملوء أسراراً، يوماً نبادله فيه الحبّ من دون قياس، هو الذي “أحبّنا إلى أقصى الحدود”، له المجد والتسبيح مع الآب والروح القدس إلى الأبد، آمين