عنوان هذا المقال هو جواب الرسل للذين قالوا لهم: “إن أرامل اليهود الهلينيون يهملون في خدمة توزيع الأرزاق اليومية” (أعمال 6/ 1 – 4). نفهم من هذا الجواب، بأن الرسل الذين اختارهم الرب يسوع وأرسلهم ليبشروا العالم بإنجيل الخلاص، أدركوا جيدا ان رسالتهم هذه لا يمكن تحقيقها من دون الصلاة والتأمل في كلام الله الحي، لهذا السبب احتلت الصلاة المقام الأول في عملهم الرسولي ونشاطهم التبشيري.
وهذا يعني بأن أي عمل رسولي ونشاط تبشيري إذا لا يرتوي بماء الصلاة والتأمل العميق بكلام الله إنه عقيم ومن دون فائدة.
يقول لنا يسوع: “أنا الكرمة وأنتم الأغصان. فمن ثبت في وثبت فيه فذاك الذي يثمر ثمرا كثيرا لأنكم بمعزل عني لا تستطيعون أن تعملوا شيئا” (يوحنا 15/ 5). على ضوء هذه الآية، نستطيع القول: فقط من خلال الثبات في المسيح، له كل المجد والاكرام والسجود، تكتسب اعمالنا ونشاطاتنا الراعوية والروحية بعداً خلاصياً وتتحول إلى شهادة حية للقائم من بين الأموات، من شأنها أن تقود الناس الى نور الايمان والحياة الجديدة التي وهبها لنا بموته وقيامته. لكن، الثبات في المسيح لا يتم الا عن طريق الصلاة. من يصلي يثبت في المسيح ومن لا يصلي لا يثبت فيه.
نقرأ في الأنجيل المقدس، بأن ربنا والهنا يسوع المسيح، كان يتهيأ لعمله الرسولي ونشاطه التبشيري بواسطة الصلاة والاختلاء الى الله، أبيه السماوي. نراه قبل أن يبدأ رسالته العلنية، يختلي أربعين يوما في البرية قضاها بالصوم والصلاة والتأمل في الكتاب المقدس (متى 4/ 1 – 11). كذلك، أنه كان يصلي حينما اعتمد من يوحنا المعمدان (لوقا 3/ 21). وقبل أن يختار الرسل الأثني عشر، أحيا الليل كله في الصلاة (لوقا 6/ 12 – 16). كان يقوم قبل الفجر مبكرا ويذهب الى مكان قفر ليصلي (مرقس 3/ 35). لم يكن يتردد في ترك الجموع، التي كانت تأتي لتسمعه وتنال الشفاء منه، ليعتزل في البراري ليصلي (لوقا 5/ 15). أثناء التجلي على الجبل كان يصلي (لوقا 9/ 28 – 29). صلى وهو يستعد للموت (لوقا 22/ 39 – 46). كذلك صلى من أجل أعدائه وهو مسمرا على الصليب المقدس (لوقا 23/ 34). كل هذه الآيات، وآيات أخرى، تدل على أن الصلاة كانت تشكل أساس حياته الأرضية، لأنه بواسطة الصلاة كان يلتقي ابيه السماوي لكي يتسنى له أن يعمل دائما ارادته. نعم، الصلاة حسب الأنجيل، هي وقت اللقاء مع الله، من خلالها يكشف لنا سره لكي نشهد له امام العالم. الصلاة المسيحية، النابعة من القلب وليس من الشفاه فقط، لها قدرة عجيبة على أن تحول كل نشاطاتنا وفعالياتنا إلى مرآة تعكس صورة المسيح الحي والوديع، بواسطة الصلاة المستمرة، يستطيع المؤمن أن يقول، وبكل تواضع، : “من رآني رأى يسوع، أنا وهو واحد” (يوحنا 14/ 9 – 10).
إن حياة ربنا والهنا يسوع المسيح وحياة الرسل والقديسين والشهداء، تشهد على أن الصلاة كان لها الأولوية في حياتهم، وهي التي كانت تثمر رسالتهم الراعوية والروحية والاجتماعية والثقافية …. لا توجد رسالة مثمرة من دون الصلاة، أي من دون الاتحاد مع الله.
قبل فترة وجيزة، أعلنت الكنيسة المقدسة رسميا، قداسة الناسك شارل دي فوكو، الذي قضى معظم حياته معتكفاً في صحراء الجزائر وهو يصلي ويتأمل في كلام الله. حياته التي كانت مبنية على الصلاة أثمرت ثمراً كثيراً، بحيث أصبح له أعدادا كبيرة من التلاميذ، رهبان وراهبات، يقتدون به و يخصصون وقتا مهما للصلاة والتأمل في كلام الله وبهذه الطريقة يقدمون خدمة جليلة للكنيسة ويشهدون شهادة حسنة للمسيح الحي في المجتمعات التي يعيشون فيها، خاصة بين الفقراء والمتألمين والمهمشين. انهم يحملون اسم “أخوات يسوع الصغيرات وأخوة يسوع الصغار” وإنهم حاضرون في معظم بلدان العالم. نشكر الله على وجودهم وشهادة حياتهم. للعلم، يقال ان القديس الجديد، اهتدى الى الله ونال نعمة الايمان المسيحي، إثر رؤيته المسلمين الجزائريين وهم يصلون حينما كان ضابطاً في الجيش الفرنسي أثناء احتلال فرنسا للجزائر. نعم، الصلاة تصنع المعجزات.
نشهد اليوم، ومع الأسف، تراجعاً كبيراً في حياة الصلاة التي فقدت الكثير من أهميتها لدى المسيحيين بصورة عامة ولدى الأكليروس بصورة خاصة، إذ أصبح غالبا مقياس نجاح الأسقف والكاهن والراهب والراهبة في رسالتهم هو القيام بكثير من النشاطات والفعاليات الدينية والثقافية والاجتماعية والاهتمام ببناء وترميم الكنائس وصالات وقاعات الاجتماعات وفي بعض الأحيان الاستثمار في مشاريع تجارية تدر أرباحا على الكنيسة، متناسين بأن الغنى المادي يشل رسالة الكنيسة ويحولها الى جسم ميت من دون حياة.” مرتا، مرتا، انك في هم وارتباك بأمور كثيرة، مع أن الحاجة إلى أمر واحد. فقد اختارت مريم النصيب الافضل، ولن ينزع منها” (لوقا 10/ 41 – 42). أما كتابنا المقدس، الذي يجب ان ينير حياتنا ويغذي رسالتنا، يقول لنا بأن ثروة الكنيسة الحقيقية تكمن في “إسم يسوع فقط”. لنقرأ ونتأمل: “وكان بطرس ويوحنا صاعدين الى الهيكل لصلاة الساعة الثالثة بعد الظهر، وكان هناك رجل كسيح من بطن أمه يحمله بعض الناس ويضعونه كل يوم على باب الهيكل المعروف بالباب الحسن ليطلب الصدقة من الذين يدخلون الهيكل. فلما رأى بطرس ويوحنا يوشكان أن يدخلا، التمس منهما الحصول على صدقة. فحدق إليه بطرس وكذلك يوحنا ثم قال له: أنظر الينا فتعلقت عيناه بهما يتوقع أن ينال منهما شيئا. فقال له بطرس: لا فضة عندي ولا ذهب، ولكن أعطيك ما عندي: باسم يسوع الناصري امش! وأمسكه بيده اليمنى وأنهضه، فاشتدت قدماه وكعباه من وقته، فقام ووثب وأخذ يمشي. ودخل الهيكل معهما، ماشيا قافزا يسبح الله” (اعمال 3/ 1 – 8). و القديس بولس، رسول الأمم وشهيد الحب الالهي، يخبرنا بأن ثروة الكنيسة هي في” يسوع الفقير” “فأنتم تعلمون جود ربنا يسوع المسيح: فقد افتقر لأجلكم وهو الغني لتغتنوا بفقره” (2 قورنتس 8/ 9). هذه الآيات تكشف لنا مصدر قوة الكنيسة ونشاطها الرسولي لكيما تصمد أمام التحديات التي تواجهها والأخطار التي تحيط بها، خاصة خطر وتحدي الثقافة المادية والالحادية والاستهلاكية التي انتشرت بصورة مذهلة بين الناس بسبب وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة والتي تبث برامجا هدامة تقود إلى الضياع وإفساد الأخلاق. نعم، إن قوة الكنيسة هي باسم ربنا يسوع المسيح، أي بالاتحاد معه بواسطة الصلاة اليومية والمستدامة.
لنصلِّ، ونحن في موسم الرسل، الذي نحتفل به بحلول الروح القدس على التلاميذ وولادة الكنيسة، لنزداد قناعة من أن عمل الصلاة يجب ان يكون له مكان الصدارة في حياتنا اليومية، لكي نتجذر أكثر فأكثر بيسوع الكرمة، لتثمر رسالتنا ثمرا ًكثيراً لمجد أبينا السماوي ونشر ملكوته بين البشر.
أرجو من الذين يقرأون هذه الأسطر، أن يصلوا من أجلي كي أعيش ما تبقى لي من الحياة الزمنية، بالإيمان والرجاء والمحبة وشهادة الحياة حتى النهاية. مع الشكر، ولنبق متحدين بالصلاة، رباط المحبة الذي لا ينقطع.